الْكِتَابِ مِرَارًا وَأَطْوَارًا، وَحَاصِلُ تِلْكَ الْوُجُوهِ أَنَّ الْخَيْرَ الْمُطْلَقَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ نَفْعًا خَالِصًا دَائِمًا مَقْرُونًا بِالتَّعْظِيمِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْقُيُودِ الْأَرْبَعَةِ حَاصِلَةٌ فِي خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ وَمَفْقُودَةٌ فِي خَيْرَاتِ الدُّنْيَا.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الْخَيْرِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ لِكَوْنِ أَحَدِ الْخَيْرَيْنِ أَفْضَلَ مِنَ الْآخَرِ كَمَا يُقَالُ: الْجُلَّابُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاءِ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ لِبَيَانِ كَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ خَيْرًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ بَيَانَ التَّفْضِيلِ كَمَا يُقَالُ: الثَّرِيدُ خَيْرٌ مِنَ اللَّه يَعْنِي الثَّرِيدَ خَيْرٌ مِنَ الْخَيْرَاتِ حَصَلَ بِإِحْسَانٍ مِنَ اللَّه.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ مَلَاذُّ الدُّنْيَا مَوْصُوفَةً بِالْخَيْرِيَّةِ أَيْضًا، وَأَمَّا إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَزِمَ أَنْ لَا يُقَالَ إِنَّ مَنَافِعَ الدُّنْيَا أَيْضًا خَيْرَاتٌ بَلْ لَعَلَّهُ يُفِيدُ أَنَّ خَيْرَ الْآخِرَةِ هُوَ الْخَيْرُ، وَأَمَّا مَا سِوَاهُ فَعَبَثٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ شَرْحُ حَالِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوَجَبَ أَنْ يُصَدَّقَ فِي حَقِّهِ أَنَّهُ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، وَهَذَا تَنْصِيصٌ مِنَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الزَّمَانِ السَّابِقِ من المتقين، وليس هاهنا زَمَانٌ سَابِقٌ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ أَنَّهُ كَانَ فِيهِ مِنَ الْمُتَّقِينَ إِلَّا ذَلِكَ الْوَقْتَ الَّذِي قَالَ اللَّه فِيهِ: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها [يُوسُفَ: ٢٤] فَكَانَ هَذَا شهادة من اللَّه تعالى على أنه عليه السَّلَامُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ: وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ شَهَادَةٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ شَهَادَةٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمُخْلَصِينَ فَثَبَتَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى شَهِدَ بِأَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنَ الْمُتَّقِينَ وَمِنَ الْمُحْسِنِينَ وَمِنَ الْمُخْلَصِينَ، وَالْجَاهِلُ الْحَشْوِيُّ يَقُولُ: إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْأَخْسَرِينَ الْمُذْنِبِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعَ هَذِهِ التَّأْكِيدَاتِ كَانَ مِنَ الْأَخْسَرِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ: الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الثَّوَابَ يَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ لِمَنْ لَمْ يَتَّقِ الْكَبَائِرَ.
قُلْنَا: هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّا إِنْ حَمَلْنَا لَفْظَ خَيْرٌ عَلَى أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ الْحَاصِلُ لِلْمُتَّقِينَ أَفْضَلَ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَحْصُلَ لِغَيْرِهِمْ أَصْلًا، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى أَصْلِ مَعْنَى الْخَيْرِيَّةِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ هَذَا الْخَيْرِ لِلْمُتَّقِينَ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غيرهم لا يحصل لهم هذا الخير.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٨ الى ٦١]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١)
اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا عَمَّ الْقَحْطُ فِي الْبِلَادِ، وَوَصَلَ أَيْضًا إِلَى الْبَلْدَةِ الَّتِي كَانَ يَسْكُنُهَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَعُبَ الزَّمَانُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ لِبَنِيهِ إِنَّ بِمِصْرَ رَجُلًا صَالِحًا يَمِيرُ النَّاسَ فَاذْهَبُوا إِلَيْهِ بِدَرَاهِمِكُمْ وَخُذُوا الطَّعَامَ فَخَرَجُوا إِلَيْهِ وَهُمْ عَشَرَةٌ وَدَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَارَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ كَالسَّبَبِ فِي اجْتِمَاعِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ