وَقَوْلُهُ: حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ أَيْ رَجَعَ فِي الدِّقَّةِ إِلَى حَالَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا مِنْ قَبْلُ.
وَالْعُرْجُونُ مِنَ الِانْعِرَاجِ يُقَالُ لِعُودِ الْعَذْقِ عُرْجُونٌ، وَالْقَدِيمُ الْمُتَقَادِمُ الزَّمَانِ، قِيلَ إِنَّ مَا غَبَرَ عَلَيْهِ سَنَةٌ فَهُوَ قَدِيمٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ بِعَيْنِهَا لَا تُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ إِطْلَاقِ الْقَدِيمِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْعَادَةُ، حَتَّى لَا يُقَالَ لِمَدِينَةٍ بُنِيَتْ مِنْ سَنَةٍ وَسَنَتَيْنِ إِنَّهَا بِنَاءٌ قَدِيمٌ أَوْ هِيَ قَدِيمَةٌ/ وَيُقَالُ لِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ إِنَّهُ قَدِيمٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَنَةٌ، وَلِهَذَا جَازَ أَنْ يُقَالَ بَيْتٌ قَدِيمٌ وَبِنَاءٌ قَدِيمٌ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ فِي الْعَالَمِ إِنَّهُ قَدِيمٌ، لِأَنَّ الْقِدَمَ فِي الْبَيْتِ وَالْبِنَاءِ يَثْبُتُ بِحُكْمِ تَقَادُمِ الْعَهْدِ وَمُرُورِ السِّنِينَ عَلَيْهِ، وَإِطْلَاقُ الْقَدِيمِ عَلَى الْعَالَمِ لَا يُعْتَادُ إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا أول له ولا سابق عليه. ثم قال تعالى:
[[سورة يس (٣٦) : آية ٤٠]]
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)
إِشَارَةً إِلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ خُلِقَ «١» عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ، فَالشَّمْسُ لَمْ تَكُنْ تَصْلُحُ لَهَا سُرْعَةُ الْحَرَكَةِ بِحَيْثُ تُدْرِكُ الْقَمَرَ وَإِلَّا لَكَانَ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ صَيْفٌ وَشِتَاءٌ فَلَا تُدْرَكُ الثِّمَارُ وَقَوْلُهُ: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ إِنَّ سُلْطَانَ اللَّيْلِ وَهُوَ الْقَمَرُ لَيْسَ يَسْبِقُ الشَّمْسَ وَهِيَ سُلْطَانُ النَّهَارِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارَ أَيِ اللَّيْلُ لَا يَدْخُلُ وَقْتَ النَّهَارِ وَالثَّانِي بَعِيدٌ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ إِيضَاحًا لِلْوَاضِحِ وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ إِنْ أُرِيدَ بِهِ مَا بَيَّنْتُهُ وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ أَنَّ الْقَمَرَ إِذَا كَانَ عَلَى أُفُقِ الْمَشْرِقِ أَيَّامَ الِاسْتِقْبَالِ تَكُونُ الشَّمْسُ فِي مُقَابَلَتِهِ عَلَى أُفُقِ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ إِنَّ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ يَطْلُعُ الْقَمَرُ وَعِنْدَ طُلُوعِهَا يَغْرُبُ الْقَمَرُ، كَأَنَّ لَهَا حَرَكَةً وَاحِدَةً مَعَ أَنَّ الشَّمْسَ تَتَأَخَّرُ عَنِ الْقَمَرِ فِي لَيْلَةٍ مِقْدَارًا ظَاهِرًا فِي الْحِسِّ، فَلَوْ كَانَ لِلْقَمَرِ حَرَكَةٌ وَاحِدَةٌ بِهَا يَسْبِقُ الشَّمْسَ وَلَا تُدْرِكُهُ الشَّمْسُ وَلِلشَّمْسِ حَرَكَةٌ وَاحِدَةٌ بِهَا تَتَأَخَّرُ عَنِ الْقَمَرِ وَلَا تُدْرِكُ الْقَمَرَ لَبَقِيَ الْقَمَرُ وَالشَّمْسُ مُدَّةً مَدِيدَةً فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ حَرَكَةَ الشَّمْسِ كُلَّ يَوْمٍ دَرَجَةٌ فَخَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَمِيعِ الْكَوَاكِبِ حَرَكَةً أُخْرَى غَيْرَ حَرَكَةِ الشَّهْرِ وَالسَّنَةِ، وَهِيَ الدَّوْرَةُ الْيَوْمِيَّةُ وَبِهَذِهِ الدَّوْرَةِ لَا يَسْبِقُ كَوْكَبٌ كَوْكَبًا أَصْلًا، لِأَنَّ كُلَّ كَوْكَبٍ مِنَ الْكَوَاكِبِ إِذَا طَلَعَ غَرُبَ مُقَابِلُهُ وَكُلَّمَا تَقَدَّمَ كَوْكَبٌ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ الْكَوْكَبُ الْآخَرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ الْكَوْكَبُ، فبهذه الحركة لا يسبق القمر الشَّمْسَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ سُلْطَانَ اللَّيْلِ لَا يَسْبِقُ سُلْطَانَ النَّهَارِ فَالْمُرَادُ مِنَ اللَّيْلِ الْقَمَرُ وَمِنَ النَّهَارِ الشَّمْسُ، فَقَوْلُهُ: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ إِشَارَةٌ إِلَى حَرَكَتِهَا الْبَطِيئَةِ الَّتِي تُتِمُّ الدَّوْرَةَ فِي سَنَةٍ وَقَوْلُهُ: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ إِشَارَةٌ إِلَى حَرَكَتِهَا الْيَوْمِيَّةِ الَّتِي بِهَا تَعُودُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَشْرِقِ مَرَّةً أُخْرَى فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْحِكْمَةُ فِي إِطْلَاقِ اللَّيْلِ وَإِرَادَةِ سُلْطَانِهِ وَهُوَ الْقَمَرُ، وَمَاذَا يَكُونُ لَوْ قَالَ وَلَا الْقَمَرُ سَابِقُ الشَّمْسِ؟ نَقُولُ لَوْ قَالَ وَلَا الْقَمَرُ سَابِقُ الشَّمْسِ مَا كَانَ يُفْهَمُ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْحَرَكَةِ الْيَوْمِيَّةِ فَكَانَ يُتَوَهَّمُ التَّنَاقُضُ، فَإِنَّ الشَّمْسَ إِذَا كانت لا تدرك القمر والقمر أَسْرَعَ ظَاهِرًا، وَإِذَا قَالَ/ وَلَا الْقَمَرُ سَابِقٌ يُظَنُّ أَنَّ الْقَمَرَ لَا يَسْبِقُ فَلَيْسَ بِأَسْرَعَ، فَقَالَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْحَرَكَةِ الَّتِي بِهَا تَتِمُّ الدَّوْرَةُ فِي مُدَّةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَيَكُونُ لِجَمِيعِ الْكَوَاكِبِ أَوْ عَلَيْهَا طُلُوعٌ وَغُرُوبٌ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ وَقَوْلِهِ:
(١) في الطبعة الأميرية «خلقها» وهو تحريف واضح.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute