وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَلَمْ يَقُلْ وَلَا اللَّيْلُ يَسْبِقُ وَلَا قَالَ مُدْرِكَةُ الْقَمَرِ؟ نَقُولُ الْحَرَكَةُ الْأَوَّلِيَّةُ الَّتِي لِلشَّمْسِ، وَلَا يُدْرَكُ بِهَا الْقَمَرُ مُخْتَصَّةٌ بِالشَّمْسِ، فَجَعَلَهَا كَالصَّادِرَةِ مِنْهَا، وَذُكِرَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ لِأَنَّ صِيغَةَ الْفِعْلِ لَا تُطْلَقُ عَلَى مَنْ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ الْفِعْلُ فَلَا يُقَالُ هُوَ يَخِيطُ وَلَا يَكُونُ يَصْدُرُ مِنْهُ الْخِيَاطَةُ. وَالْحَرَكَةُ الثَّانِيَةُ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِكَوْكَبٍ مِنَ الْكَوَاكِبِ بَلِ الْكُلُّ فِيهَا مشتركة بسبب حركة فلك ليس ذَلِكَ فَلَكًا لِكَوْكَبٍ مِنَ الْكَوَاكِبِ، فَالْحَرَكَةُ لَيْسَتْ كَالصَّادِرَةِ مِنْهُ فَأَطْلَقَ اسْمَ الْفَاعِلِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ صُدُورَ الْفِعْلِ يُقَالُ فُلَانٌ خَيَّاطٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَيَّاطًا، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً [الْأَعْرَافِ: ٥٤] يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرْتُمْ، لِأَنَّ النَّهَارَ إِذَا كَانَ يَطْلُبُ اللَّيْلَ فَاللَّيْلُ سَابِقُهُ، وَقُلْتُمْ إِنَّ قَوْلَهُ: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْتُمْ فَيَكُونُ اللَّيْلُ سَابِقًا وَلَا يَكُونُ سَابِقًا، نقول قد ذكرنا أن المراد بالليل هاهنا سُلْطَانُ اللَّيْلِ وَهُوَ الْقَمَرُ، وَهُوَ لَا يَسْبِقُ الشَّمْسَ بِالْحَرَكَةِ الْيَوْمِيَّةِ السَّرِيعَةِ، وَالْمُرَادُ مِنَ اللَّيْلِ هُنَاكَ نَفْسُ اللَّيْلِ وَكُلُّ وَاحِدٍ لَمَّا كَانَ فِي عَقِيبِ الْآخَرِ فَكَأَنَّهُ طَالِبُهُ، فَإِنْ قِيلَ فلم ذكر هاهنا سابِقُ النَّهارِ وَقَدْ ذَكَرَ هُنَاكَ يَطْلُبُهُ، وَلَمْ يَقُلْ طَالِبُهُ؟ نَقُولُ ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ اللَّيْلِ كواكب اللَّيْلِ، وَهِيَ فِي هَذِهِ الْحَرَكَةِ كَأَنَّهَا لَا حَرَكَةَ لَهَا وَلَا تَسْبِقُ، وَلَا مِنْ شَأْنِهَا أَنَّهَا سَابِقَةٌ، وَالْمُرَادُ هُنَاكَ نَفْسُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمَا زَمَانَانِ وَالزَّمَانُ لَا قَرَارَ لَهُ فَهُوَ يُطْلَبُ حَثِيثًا لِصُدُورِ التَّقَصِّي مِنْهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يُحَقِّقُ مَا ذَكَرْنَا أَيْ لِلْكُلِّ طُلُوعٌ وَغُرُوبٌ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَا يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الْحَرَكَةِ وَكُلُّ حَرَكَةٍ فِي فَلَكٍ تَخُصُّهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّنْوِينُ فِي قَوْلِهِ (وَكَلٌّ) عِوَضٌ عَنِ الْإِضَافَةِ مَعْنَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ وَإِسْقَاطُ التَّنْوِينِ لِلْإِضَافَةِ حَتَّى لَا يَجْتَمِعَ التَّعْرِيفُ وَالتَّنْكِيرُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فَلَمَّا سَقَطَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ لَفْظًا رُدَّ التَّنْوِينُ عَلَيْهِ لَفْظًا، وَفِي الْمَعْنَى مُعَرَّفٌ بِالْإِضَافَةِ، فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ يَخْتَلِفُ الْأَمْرُ عِنْدَ الْإِضَافَةِ لَفْظًا وَتَرْكِهَا؟ فَنَقُولُ نَعَمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ كَذَا لَا يَذْهَبُ الْفَهْمُ إِلَى غَيْرِهِمْ فَيُفِيدُ اقْتِصَارَ الْفَهْمِ عَلَيْهِ، فَإِذَا قَالَ كُلُّ كَذَا يَدْخُلُ فِي الْفَهْمِ عُمُومٌ أَكْثَرُ مِنَ الْعُمُومِ عِنْدَ الْإِضَافَةِ «١» ، وَهَذَا كَمَا فِي قَبْلُ وَبَعْدُ إِذَا قُلْتَ افْعَلْ قَبْلَ كَذَا فَإِذَا حَذَفْتَ الْمُضَافَ وَقُلْتَ افْعَلْ قَبْلُ أَفَادَ فَهْمُ الْفِعْلِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ بَيْنَ قَوْلِنَا كُلٌّ مِنْهُمْ وَبَيْنَ قَوْلِنَا كُلُّهُمْ وَبَيْنَ كُلٌّ فَرْقٌ؟ نَقُولُ نَعَمْ عِنْدَ قَوْلِكَ كُلُّهُمْ تُثْبِتُ الْأَمْرَ لِلِاقْتِصَارِ عَلَيْهِمْ، وَعِنْدَ قَوْلِكَ كُلٌّ مِنْهُمْ تُثْبِتُ الْأَمْرَ أَوَّلًا لِلْعُمُومِ، ثُمَّ اسْتَدْرَكْتَ بالتخصيص فقلت منهم، وعند قولك كل تثبت الْأَمْرَ عَلَى الْعُمُومِ وَتَتْرُكُهُ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ كُلٌّ بِمَعْنَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَالْمَذْكُورُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فَكَيْفَ قَالَ: يَسْبَحُونَ؟
نَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: مَا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ كُلٌّ لِلْعُمُومِ فَكَأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ كُلِّ كَوْكَبٍ فِي السَّمَاءِ سَيَّارٍ ثَانِيهَا: إِنَّ لَفْظَ كُلٍّ يَجُوزُ أَنْ يُوَحَّدَ نَظَرًا إِلَى كَوْنِهِ لَفْظًا مُوَحَّدًا غَيْرَ مُثَنًّى وَلَا مَجْمُوعٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ لِكَوْنِ مَعْنَاهُ جَمْعًا، وَأَمَّا التَّثْنِيَةُ فَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا اللَّفْظُ وَلَا الْمَعْنَى فَعَلَى هَذَا يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ زَيْدٌ وَعَمْرٌو كُلٌّ جَاءَ أَوْ كُلٌّ جَاءُوا وَلَا يَقُولُ كُلٌّ جَاءَا بِالتَّثْنِيَةِ وَثَالِثُهَا: لَمَّا قَالَ: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَالْمُرَادُ مَا فِي اللَّيْلِ مِنَ الْكَوَاكِبِ قَالَ: يَسْبَحُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْفَلَكُ مَاذَا؟ نَقُولُ الْجِسْمُ الْمُسْتَدِيرُ أَوِ السَّطْحُ الْمُسْتَدِيرُ أَوِ الدَّائِرَةُ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ فَلَكَةَ الْمِغْزَلِ سُمِّيَتْ فَلَكَةً لِاسْتِدَارَتِهَا وَفَلَكَةُ الْخَيْمَةِ هِيَ الْخَشَبَةُ الْمُسَطَّحَةُ الْمُسْتَدِيرَةُ الَّتِي تُوضَعُ عَلَى رَأْسِ الْعَمُودِ لِئَلَّا يُمَزِّقَ الْعَمُودُ الْخَيْمَةَ وَهِيَ صَفْحَةٌ مُسْتَدِيرَةٌ، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هذا تكون السماء مستديرة. وقد
(١) في طبعة بولاق هذا «للافاضافة» وهو خطأ واضح.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute