للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[[سورة التوبة (٩) : آية ١٩]]

أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩)

فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَقْوَالًا فِي نُزُولِ الْآيَةِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ إِنَّ عَلِيًّا لَمَّا أَغْلَظَ الْكَلَامَ لِلْعَبَّاسِ، قَالَ الْعَبَّاسُ: إِنْ كُنْتُمْ سَبَقْتُمُونَا بِالْإِسْلَامِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالْجِهَادِ فَلَقَدْ كُنَّا نَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَنَسَقِي الْحَاجَّ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ،

وَقِيلَ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلْيَهُودِ، نَحْنُ سُقَاةُ الْحَاجِّ وَعُمَّارُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَنَحْنُ أَفْضَلُ أَمْ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ؟ فَقَالَتِ الْيَهُودُ لَهُمْ أَنْتُمْ أَفْضَلُ.

وَقِيلَ: إِنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ: يَا عَمِّي أَلَا تُهَاجِرُونَ أَلَا تَلْحَقُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: أَلَسْتُ فِي أَفْضَلِ مِنَ الْهِجْرَةِ؟ أَسْقِي حَاجَّ بَيْتِ اللَّهِ وَأَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ: مَا أَرَانِي إِلَّا تَارِكَ سِقَايَتِنَا. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَقِيمُوا عَلَى سِقَيَاتِكُمْ فَإِنَّ لَكُمْ فِيهَا خَيْرًا»

وَقِيلَ افْتَخَرَ طَلْحَةُ بْنُ شَيْبَةَ وَالْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ، فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا صَاحِبُ الْبَيْتِ بِيَدِي مِفْتَاحُهُ، وَلَوْ أَرَدْتُ بت فيه. قال الْعَبَّاسُ: أَنَا صَاحِبُ السِّقَايَةِ وَالْقَائِمُ عَلَيْهَا. قَالَ عَلِيٌّ: أَنَا صَاحِبُ الْجِهَادِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُفَاضَلَةٌ جَرَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا جَرَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ. أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهَا جَرَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَدِ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ المهاجرين:

أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: ٢٠] وَهَذَا يَقْتَضِي أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْجُوحِ أَيْضًا/ دَرَجَةٌ عِنْدَ الله، وَهَذَا يَقْتَضِي أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْجُوحِ أَيْضًا دَرَجَةٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْمُؤْمِنِ وَسَنُجِيبُ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهَا جَرَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ، فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبَيَّنَ مَنْ آمن بالله وهذا هو الأقرب عندي. تقرير الْكَلَامِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّا قَدْ نَقَلْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [التوبة: ١٨] أَنَّ الْعَبَّاسَ احْتَجَّ عَلَى فَضَائِلِ نَفْسِهِ، بِأَنَّهُ عَمَّرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَسَقَى الْحَاجَّ فَأَجَابَ اللَّهُ عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: مَا بُيِّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ عِمَارَةَ الْمَسْجِدِ، إِنَّمَا تُوجِبُ الْفَضِيلَةَ إِذَا كَانَتْ صَادِرَةً عَنِ الْمُؤْمِنِ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ صَادِرَةً عَنِ الْكَافِرِ فَلَا فَائِدَةَ فِيهَا أَلْبَتَّةَ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الْجَوَابِ كُلُّ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ عِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَسَقْيَ الْحَاجِّ، يُوجِبُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْفَضِيلَةِ، إِلَّا أَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَالْجِهَادِ قَلِيلٌ جِدًّا فَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَعْمَالِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْجِهَادِ خَطَأً، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي مُقَابَلَةَ الشَّيْءِ الشَّرِيفِ الرَّفِيعِ جِدًّا بِالشَّيْءِ الْحَقِيرِ التَّافِهِ جِدًّا، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ، فَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَحْصُلُ النَّظْمُ الصَّحِيحُ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : السِّقَايَةُ وَالْعِمَارَةُ مَصْدَرَانِ مِنْ سَقَى وَعَمَرَ كَالصِّيَانَةِ وَالْوِقَايَةِ.

وَاعْلَمْ أن السقاية والعمارة فعل، قوله: كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْفَاعِلِ، فَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي تَشْبِيهَ الْفِعْلِ بِالْفَاعِلِ، وَالصِّفَةِ بِالذَّاتِ وَإِنَّهُ مُحَالٌ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ التَّقْدِيرُ أَجَعَلْتُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>