للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَيْهِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْبَحْثِ فِيهِ اسْتِقْصَاءٌ وَلَا يَلِيقُ ذِكْرُهُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى دَقِيقَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ أَقَلَّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي حُصُولِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ الْبَرَاءَةُ عَنِ الْمَكْرِ وَالْغَدْرِ وَالْغِلِّ وَالْحَسَدِ. وَقَوْلُهُ لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ عَيْنُ الْمَكْرِ وَالْغَدْرِ وَالْحَسَدِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ مَعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ؟ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ سَيُصِيبُهُمْ صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الثَّوَابَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِأَمْرَيْنِ التَّعْظِيمُ وَالْمَنْفَعَةُ وَالْعِقَابُ أَيْضًا إِنَّمَا يَتِمُّ بِأَمْرَيْنِ الْإِهَانَةُ وَالضَّرَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى تَوَعَّدَهُمْ بِمَجْمُوعِ هذين الأمرين في هذه الآية اما الاهابة فقوله سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ الصَّغَارِ عَلَى ذِكْرِ الضَّرَرِ لِأَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا تَمَرَّدُوا عَنْ طَاعَةِ/ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَلَبًا لِلْعِزِّ وَالْكَرَامَةِ فَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ يُقَابِلُهُمْ بِضِدِّ مَطْلُوبِهِمْ فَأَوَّلُ مَا يُوَصِّلُ إِلَيْهِمْ إِنَّمَا يُوَصِّلُ الصَّغَارَ وَالذُّلَّ وَالْهَوَانَ وَفِي قَوْلِهِ صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا الصَّغَارَ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ حَيْثُ لَا حَاكِمَ يُنَفِّذُ حُكْمَهُ سِوَاهُ. وَالثَّانِي أَنَّهُمْ يُصِيبُهُمْ صغار بحكم الله وإيجابه في در الدُّنْيَا فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الصَّغَارُ هَذَا حَالُهُ جَازَ أَنْ يُضَافَ إِلَى عِنْدَ اللَّهِ. الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ وَقَالَ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ مُعَدٌّ لَهُمْ ذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ الرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ صَغَارٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ كَلِمَةِ «مِنْ» وَأَمَّا بَيَانُ الضَّرَرِ وَالْعَذَابِ فَهُوَ قَوْلُهُ وَعَذابٌ شَدِيدٌ فَحَصَلَ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى أَعَدَّ لَهُمُ الْخِزْيَ الْعَظِيمَ وَالْعَذَابَ الشَّدِيدَ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُصِيبُهُمْ لِأَجْلِ مَكْرِهِمْ وكذبهم وحسدهم.

[[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٥]]

فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (١٢٥)

فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى تَمَسَّكَ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ الضَّلَالَ وَالْهِدَايَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَمَا أَنَّ لَفْظَهَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا فَلَفْظُهَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْعَبْدَ قَادِرٌ عَلَى الْإِيمَانِ وَقَادِرٌ عَلَى الْفِكْرِ فَقُدْرَتُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ حَاصِلَةٌ عَلَى السَّوِيَّةِ فَيَمْتَنِعُ صُدُورُ الْإِيمَانِ عَنْهُ بَدَلًا مِنَ الْكُفْرِ أَوِ الْكُفْرِ بَدَلًا مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا إِذَا حَصَلَ فِي الْقَلْبِ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مِرَارًا كَثِيرَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ وَتِلْكَ الدَّاعِيَةُ لَا مَعْنَى لَهَا إِلَّا عِلْمُهُ أَوِ اعْتِقَادُهُ أَوْ ظَنُّهُ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْفِعْلِ مُشْتَمِلًا عَلَى مَصْلَحَةٍ زَائِدَةٍ وَمَنْفَعَةٍ رَاجِحَةٍ فَإِنَّهُ إِذَا حَصَلَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقَلْبِ دَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى فِعْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَإِنْ حَصَلَ فِي الْقَلْبِ عِلْمٌ أَوِ اعْتِقَادٌ أَوْ ظَنٌّ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْفِعْلِ مُشْتَمِلًا عَلَى ضَرَرٍ زَائِدٍ وَمَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ دَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى/ تَرْكِهِ وَبَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الدَّوَاعِي لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ مَجْمُوعَ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِي يُوجِبُ الْفِعْلَ.

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَصْدُرَ الْإِيمَانُ عَنِ الْعَبْدِ إِلَّا إِذَا خَلَقَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ اعْتِقَادَ أَنَّ الْإِيمَانَ رَاجِحُ الْمَنْفَعَةِ زَائِدُ الْمَصْلَحَةِ وَإِذَا حَصَلَ فِي الْقَلْبِ هَذَا الِاعْتِقَادُ مَالَ الْقَلْبُ وَحَصَلَ فِي النَّفْسِ رَغْبَةٌ شَدِيدَةٌ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>