هَذَا هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي لَا حُكْمَ فِيهِ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلَّهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوهُ لِمَا حَصَلَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْأَوَّلُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا هَلْ هُوَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ الْكُفَّارِ أَوْ يُقَالُ تَمَّ كَلَامُهُمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا يَوْمُ الدِّينِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ فَهُوَ كَلَامُ غَيْرِهِمْ، فَبَعْضُهُمْ قَالَ بِالْأَوَّلِ وَزَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الْآيَةَ مِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَاحْتَجُّوا بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ:
كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ مِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ خِطَابٌ مَعَ جَمِيعِ الْكُفَّارِ فَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْكُفَّارِ الثَّانِي: أَنَّ قوله: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: ٢٢] منسوق عَلَى قَوْلِهِ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا كَلَامَ غَيْرِ الْكُفَّارِ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ غَيْرِ الْكُفَّارِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ: هَذَا يَوْمُ الدِّينِ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ، وَقَوْلُهُ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ جَوَابًا لَهُمْ، وَالْوَجْهُ فِي كَوْنِهِ جَوَابًا لَهُمْ أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ، إِنَّمَا اعْتَقَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ كَوْنَهُمْ مُحِقِّينَ فِي إِنْكَارِ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَكَوْنَهُمْ مُحِقِّينَ فِي تِلْكَ الْأَدْيَانِ الْفَاسِدَةِ فَقَالُوا: هَذَا يَوْمُ الدِّينِ أَيْ هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي يَصِلُ فِيهِ إِلَيْنَا جَزَاءُ طَاعَتِنَا وَخَيْرَاتِنَا، فَالْمَلَائِكَةُ يَقُولُونَ لَهُمْ إِنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَإِنَّ هَذَا الْيَوْمَ/ يُفْصَلُ فِيهِ الْجَزَاءُ الْحَقِيقِيُّ عَنِ الْجَزَاءِ الظَّاهِرِيِّ وَتُمَيَّزُ فِيهِ الطَّاعَاتُ الْحَقِيقِيَّةُ عَنِ الطَّاعَاتِ الْمَقْرُونَةِ بِالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ صَارَ هَذَا الْكَلَامُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جَوَابًا لِمَا ذَكَرَهُ الْكُفَّارُ. ثم قال تعالى:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٢٢ الى ٢٦]
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦)
وَفِي الْآيَةِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى: احْشُرُوا مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ حُشِرُوا مِنْ قَبْلُ وَحَضَرُوا فِي محفل القيامة وقالوا: هذا يَوْمُ الدِّينِ [الصافات: ٢٠] وَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ بَلْ:
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ [الصافات: ٢١] أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ، فَقَالَ الْمُرَادُ احْشُرُوهُمْ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ وَهِيَ النَّارُ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أَيْ خُذُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ الطَّرِيقِ وَدُلُّوهُمْ عَلَيْهِ ثُمَّ سَأَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ: كَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ بَعْدَهُ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَشْرَهُمْ إِلَى الْجَحِيمِ، إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمَسْأَلَةِ، وَأَجَابَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَطْفِ بِحَرْفِ الْوَاوِ تَرْتِيبٌ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ احْشُرُوهُمْ وَقِفُوهُمْ، مَعَ أَنَّا بِعُقُولِنَا نَعْلَمُ أَنَّ الْوُقُوفَ كَانَ قَبْلَ الْحَشْرِ إِلَى النَّارِ، هَذَا مَا قَالَهُ الْقَاضِي، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ إِذَا قَامُوا مِنْ قُبُورِهِمْ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَقِفُوا هُنَاكَ بِحَيْرَةٍ تَلْحَقُهُمْ بِسَبَبِ مُعَايَنَةِ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ، أَيْ سُوقُوهُمْ إِلَى طَرِيقِ جَهَنَّمَ وَقِفُوهُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute