للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ وَالْغَيْظِ وَالْعَدَاوَةِ إِلَّا اللَّه.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعَامِلَهُمْ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَهَذَا يُفِيدُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْعُذْرَ وَلَا يَغْتَرَّ بِهِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَقْبَلُ عُذْرَ غَيْرِهِ وَيَسْتَمِرُّ عَلَى سُخْطِهِ قَدْ يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُعْرِضٌ عَنْهُ غَيْرُ مُلْتَفِتٍ إِلَيْهِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا يَجْرِي مَجْرَى أَنْ يَقُولَ لَهُ: اكْتَفِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَلَا تَهْتِكْ سِتْرَهُمْ، وَلَا تُظْهِرْ لَهُمْ أَنَّكَ عَالِمٌ بِكُنْهِ مَا فِي بَوَاطِنِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ هَتَكَ سِتْرَ/ عَدُّوِهُ وَأَظْهَرَ لَهُ كَوْنَهُ عَالِمًا بِمَا فِي قَلْبِهِ فَرُبَّمَا يُجَرِّئُهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ لَا يُبَالِيَ بِإِظْهَارِ الْعَدَاوَةِ فَيَزْدَادَ الشَّرُّ، وَلَكِنْ إِذَا تَرَكَهُ عَلَى حَالِهِ بَقِيَ فِي خَوْفٍ وَوَجِلٍ فَيَقِلُّ الشَّرُّ.

النَّوْعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِظْهُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَزْجُرُهُمْ عَنِ النِّفَاقِ وَالْمَكْرِ وَالْكَيْدِ وَالْحَسَدِ وَالْكَذِبِ وَيُخَوِّفُهُمْ بِعِقَابِ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النَّحْلِ: ١٢٥] .

النَّوْعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: فِي أَنْفُسِهِمْ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا بَلِيغًا فِي أَنْفُسِهِمْ مُؤَثِّرًا فِي قُلُوبِهِمْ يَغْتَمُّونَ بِهِ اغْتِمَامًا وَيَسْتَشْعِرُونَ مِنْهُ الْخَوْفَ اسْتِشْعَارًا. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَقُلْ لَهُمْ فِي مَعْنَى أَنْفُسِهِمُ الْخَبِيثَةِ وَقُلُوبِهِمُ الْمَطْوِيَّةِ عَلَى النِّفَاقِ قَوْلًا بَلِيغًا، وَإِنَّ اللَّه يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ فَلَا يُغْنِي عَنْكُمْ إِخْفَاؤُهُ، فَطَهِّرُوا قُلُوبَكُمْ مِنَ النِّفَاقِ وَإِلَّا أَنْزَلَ اللَّه بِكُمْ مَا أَنْزَلَ بِالْمُجَاهِرِينَ بِالشِّرْكِ أَوْ شَرًّا مِنْ ذَلِكَ وَأَغْلَظَ. الثَّالِثُ: قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ خَالِيًا بِهِمْ لَيْسَ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ عَلَى سَبِيلِ السِّرِّ، لِأَنَّ النصيحة عَلَى الْمَلَأِ تَقْرِيعٌ وَفِي السِّرِّ مَحْضُ الْمَنْفَعَةِ.

المسألة الثانية: في الآية قولان: أحدهما: إن الْمُرَادَ بِالْوَعْظِ التَّخْوِيفُ بِعِقَابِ الْآخِرَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الْبَلِيغِ التَّخْوِيفُ بِعِقَابِ الدُّنْيَا، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: إِنَّ مَا فِي قُلُوبِكُمْ مِنَ النِّفَاقِ وَالْكَيْدِ مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّه، وَلَا فَرْقَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ الْكُفَّارِ، وَإِنَّمَا رَفَعَ اللَّه السَّيْفَ عَنْكُمْ لِأَنَّكُمْ أَظْهَرْتُمُ الْإِيمَانَ، فَإِنْ وَاظَبْتُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ ظَهَرَ لِلْكُلِّ بَقَاؤُكُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُكُمُ السَّيْفُ. الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ الْبَلِيغَ صِفَةٌ لِلْوَعْظِ، فَأَمَرَ تَعَالَى بِالْوَعْظِ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَعْظُ بِالْقَوْلِ الْبَلِيغِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا بَلِيغًا طَوِيلًا حَسَنَ الْأَلْفَاظِ حَسَنَ الْمَعَانِي مُشْتَمِلًا عَلَى التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْإِحْذَارِ وَالْإِنْذَارِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ إِذَا كَانَ هَكَذَا عَظُمَ وَقْعُهُ فِي الْقَلْبِ، وَإِذَا كَانَ مُخْتَصَرًا رَكِيكَ اللَّفْظِ قَلِيلَ الْمَعْنَى لَمْ يؤثر ألبتة في القلب.

[[سورة النساء (٤) : آية ٦٤]]

وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ فِي قَوْلِهِ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ثُمَّ حَكَى أَنَّ بَعْضَهُمْ تَحَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ وَلَمْ يَتَحَاكَمْ إِلَى الرَّسُولِ، وَبَيَّنَ قُبْحَ طَرِيقِهِ وَفَسَادَ مَنْهَجِهِ، رَغَّبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَرَّةً أُخْرَى فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ فَقَالَ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَفِي/ الْآيَةِ مَسَائِلُ:

<<  <  ج: ص:  >  >>