يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
[الْبَيِّنَةِ: ١] صَرِيحٌ فِي كَوْنِهِمْ كُفَّارًا، وَطَرِيقُ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُفْرَ الْمُشْرِكِينَ أَعْظَمُ وَأَغْلَظُ، فَنَحْنُ لِهَذَا السَّبَبِ نُخَصِّصُهُمْ بِاسْمِ الْكُفْرِ. واللَّه أَعْلَمُ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَعْنَى تَلَاعُبِهِمْ بِالدِّينِ وَاسْتِهْزَائِهِمْ إِظْهَارُهُمْ ذَلِكَ بِاللِّسَانِ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ فِي الْقَلْبِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [الْبَقَرَةِ: ١٤] وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَسُخْرِيَةً فَلَا تَتَّخِذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَأَنْصَارًا وَأَحْبَابًا، فإن ذلك الأمر الخارج عن العقل والمروءة.
[[سورة المائدة (٥) : آية ٥٨]]
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (٥٨)
لَمَّا حَكَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَنْهُمْ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَ المسلمين هزوا ولعبا ذكر هاهنا بَعْضَ مَا يَتَّخِذُونَهُ مِنْ هَذَا الدِّينِ هُزُوًا وَلَعِبًا فَقَالَ: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ اتَّخَذُوها لِلصَّلَاةِ أَوِ الْمُنَادَاةِ.
قِيلَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ النَّصَارَى بِالْمَدِينَةِ إِذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه يَقُولُ:
أُحْرِقَ الْكَاذِبُ، فَدَخَلَتْ خَادِمَتُهُ بِنَارٍ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَتَطَايَرَتْ مِنْهَا شَرَارَةٌ فِي الْبَيْتِ فَاحْتَرَقَ الْبَيْتُ وَاحْتَرَقَ هُوَ وَأَهْلُهُ.
وَقِيلَ: كَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِي لِلصَّلَاةِ وَقَامَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهَا، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: قَامُوا لَا قَامُوا، صَلَّوْا لَا صَلَّوْا عَلَى طريق الاستهزاء، فنزلت الآية.
وقيل: كان المنافقون يتضاحكون عند القيام إلى الصلاة تنفيرا للناس عنها.
وَقِيلَ: قَالُوا يَا مُحَمَّدُ لَقَدْ أَبْدَعْتَ شَيْئًا لَمْ يُسْمَعْ فِيمَا مَضَى، فَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَقَدْ خَالَفْتَ فِيمَا أَحْدَثْتَ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ، فَمِنْ أَيْنَ لَكَ صِيَاحٌ كَصِيَاحِ الْعِيرِ، فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى ثُبُوتِ الْأَذَانِ بِنَصِّ الْكِتَابِ لَا بِالْمَنَامِ وَحْدَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ هُزُواً وَلَعِباً أَمْرَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عِنْدَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ يَقُولُونَ: هَذِهِ الْأَعْمَالُ الَّتِي أَتَيْنَا بِهَا اسْتِهْزَاءٌ بِالْمُسْلِمِينَ وَسُخْرِيَةٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّا عَلَى دِينِهِمْ مَعَ أَنَّا لَسْنَا كَذَلِكَ. وَلَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا فَائِدَةٌ وَمَنْفَعَةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا قَالُوا إِنَّهَا لَعِبٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ أَيْ لَوْ كَانَ لَهُمْ عَقْلٌ كَامِلٌ لَعَلِمُوا أَنَّ تَعْظِيمَ الْخَالِقِ الْمُنْعِمِ وَخِدْمَتَهُ مَقْرُونَةٌ بِغَايَةِ التَّعْظِيمِ لَا يَكُونُ هُزُوًا وَلَعِبًا، بَلْ هُوَ أَحْسَنُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ وَأَشْرَفُ أَفْعَالِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: أَشْرَفُ الْحَرَكَاتِ الصلاة، وأنفع السكنات الصيام.
[[سورة المائدة (٥) : آية ٥٩]]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩)
[في قوله تعالى قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ] اعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ النَّظْمِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَ الْإِسْلَامِ هُزُوًا وَلَعِبًا قَالَ لَهُمْ: مَا الَّذِي تَنْقِمُونَ مِنْ هَذَا الدِّينِ، وَمَا الَّذِي تَجِدُونَ فِيهِ مِمَّا يُوجِبُ اتِّخَاذَهُ هُزُوًا وَلَعِبًا وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: