للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْمَعْنَى: إِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مَكَرُوا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ قَنَطُوا. وَاعْلَمْ أَنَّ (إِذَا) فِي قَوْلِهِ: إِذا لَهُمْ مَكْرٌ تُفِيدُ الْمُفَاجَأَةَ، مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ فِي الْحَالِ أَقْدَمُوا عَلَى الْمَكْرِ وَسَارَعُوا إِلَيْهِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: سَمَّى تَكْذِيبَهُمْ بِآيَاتِ اللَّه مَكْرًا، لِأَنَّ الْمَكْرَ عِبَارَةٌ عَنْ صَرْفِ الشَّيْءِ عَنْ وَجْهِهِ الظَّاهِرِ بِطَرِيقِ الْحِيلَةِ، وَهَؤُلَاءِ يَحْتَالُونَ لِدَفْعِ آيَاتِ اللَّه بِكُلِّ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ إِلْقَاءِ شُبْهَةٍ أَوْ تَخْلِيطٍ فِي مُنَاظَرَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْفَاسِدَةِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْمَكْرِ هُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَقُولُونَ هَذَا رِزْقُ اللَّه، بَلْ يَقُولُونَ سُقِينَا بِنَوْءِ كَذَا.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ لَمَّا قَابَلُوا نِعْمَةَ اللَّه بِالْمَكْرِ، فاللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَابِلَ مَكْرَهُمْ بِمَكْرٍ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا أَعَدَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، وَفِي الدُّنْيَا مِنَ الْفَضِيحَةِ وَالْخِزْيِ وَالنَّكَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّ رُسُلَ اللَّه يَكْتُبُونَ مَكْرَهُمْ وَيَحْفَظُونَهُ، وَتُعْرَضُ عَلَيْهِمْ مَا فِي بواطنهم الخبيئة يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْفَضِيحَةِ التَّامَّةِ والخزي والنكال نعوذ باللَّه تعالى منه.

[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]

هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ إلى قوله بِغَيْرِ الْحَقِ] في الآية مسائل:

المسألة الأولى: [في ذكر اللَّه تَعَالَى لِنَقْلِ الْإِنْسَانِ مِنَ الضُّرِّ الشَّدِيدِ إلى الرحمة مثالا، ولمكر الإنسان مثالا] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا [يونس: ٢١] كَانَ هَذَا الْكَلَامُ كَلَامًا كُلِّيًّا لَا يَنْكَشِفُ مَعْنَاهُ تَمَامَ الِانْكِشَافِ إِلَّا بِذِكْرِ مِثَالٍ كَامِلٍ، فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى لِنَقْلِ الْإِنْسَانِ مِنَ الضُّرِّ الشَّدِيدِ إِلَى الرَّحْمَةِ مِثَالًا، وَلِمَكْرِ الْإِنْسَانِ مِثَالًا، حَتَّى تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ كَالْمُفَسِّرَةِ لِلْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْكُلِّيَّ لَا يَصِلُ إِلَى أَفْهَامِ السَّامِعِينَ إِلَّا بِذِكْرِ مِثَالٍ جَلِيٍّ وَاضِحٍ يَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَكِبَ السَّفِينَةَ وَوَجَدَ الرِّيحَ الطَّيِّبَةَ الْمُوَافِقَةَ لِلْمَقْصُودِ، حَصَلَ لَهُ الْفَرَحُ التَّامُّ وَالْمَسَرَّةُ الْقَوِيَّةُ، ثُمَّ قَدْ تَظْهَرُ عَلَامَاتُ الْهَلَاكِ دُفْعَةً وَاحِدَةً. فَأَوَّلُهَا: أَنْ تَجِيئَهُمُ الرِّيَاحُ الْعَاصِفَةُ الشَّدِيدَةُ. وَثَانِيهَا: أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْأَمْوَاجُ الْعَظِيمَةُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظُنُونِهِمْ أَنَّ الْهَلَاكَ وَاقِعٌ، وَأَنَّ النَّجَاةَ لَيْسَتْ مُتَوَقَّعَةً، وَلَا شَكَّ أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الطَّيِّبَةِ الْمُوَافِقَةِ إِلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْقَاهِرَةِ الشَّدِيدَةِ يُوجِبُ الْخَوْفَ الْعَظِيمَ، وَالرُّعْبَ الشَّدِيدَ، وَأَيْضًا مُشَاهَدَةُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَالْأَهْوَالِ فِي الْبَحْرِ مُخْتَصَّةٌ بِإِيجَابِ مَزِيدِ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ ثُمَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَطْمَعُ إِلَّا فِي فَضْلِ اللَّه وَرَحْمَتِهِ، وَيَصِيرُ مُنْقَطِعَ الطَّمَعِ عَنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَيَصِيرُ بِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ وَجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُتَضَرِّعًا إِلَى اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ إِذَا نَجَّاهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْبَلِيَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَنَقَلَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَضَرَّةِ الْقَوِيَّةِ إِلَى الْخَلَاصِ وَالنَّجَاةِ، فَفِي الْحَالِ يَنْسَى تِلْكَ النِّعْمَةَ وَيَرْجِعُ إِلَى ما ألفه

<<  <  ج: ص:  >  >>