للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فاللَّه تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ فِي عَيْنِ الْفِتْنَةِ وَاقِعُونَ سَاقِطُونَ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ قِيلَ: إِنَّهَا تُحِيطُ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ إِنَّ أَسْبَابَ تِلْكَ الْإِحَاطَةِ حَاصِلَةٌ فِي الْحَالِ، فَكَأَنَّهُمْ فِي وَسَطِهَا. وَقَالَ الْحُكَمَاءُ الإسلاميون: إِنَّهُمْ كَانُوا مَحْرُومِينَ مِنْ نُورِ مَعْرِفَةِ اللَّه وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ كَمَالًا وَسَعَادَةً سِوَى الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ، ثُمَّ إِنَّهُمُ اشْتَهَرُوا بَيْنَ النَّاسِ بِالنِّفَاقِ وَالطَّعْنِ فِي الدِّينِ. وَقَصْدِ الرَّسُولِ بِكُلِّ سُوءٍ، وَكَانُوا يُشَاهِدُونَ أَنَّ دَوْلَةَ الْإِسْلَامِ أَبَدًا فِي التَّرَقِّي وَالِاسْتِعْلَاءِ وَالتَّزَايُدِ، وَكَانُوا فِي أَشَدِّ الْخَوْفِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَوْلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ كَانُوا مَحْرُومِينَ عَنْ كُلِّ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ، فَكَانُوا فِي أَشَدِّ الْخَوْفِ، بِسَبَبِ الْأَحْوَالِ الْعَاجِلَةِ، وَالْخَوْفُ الشَّدِيدُ مَعَ الْجَهْلِ الشَّدِيدِ، أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ، فَعَبَّرَ اللَّه تَعَالَى عَنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ.

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٠ الى ٥١]

إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١)

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ كَيْدِ الْمُنَافِقِينَ وَمِنْ خُبْثِ بَوَاطِنِهِمْ، وَالْمَعْنَى: إِنْ تُصِبْكَ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ حَسَنَةٌ سَوَاءً كَانَ ظَفَرًا، أَوْ كَانَ غَنِيمَةً، أَوْ كَانَ انْقِيَادًا لِبَعْضِ مُلُوكِ الْأَطْرَافِ، يَسُؤْهُمْ ذَلِكَ، وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ مِنْ نَكْبَةٍ وَشِدَّةٍ وَمُصِيبَةٍ وَمَكْرُوهٍ يَفْرَحُوا بِهِ، وَيَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا الَّذِي نَحْنُ مَشْهُورُونَ بِهِ، وَهُوَ الْحَذَرُ وَالتَّيَقُّظُ وَالْعَمَلُ بِالْحَزْمِ، مِنْ قَبْلُ أَيْ قَبْلَ مَا وَقَعَ وَتَوَلَّوْا عَنْ/ مَقَامِ التَّحَدُّثِ بِذَلِكَ، وَالِاجْتِمَاعِ لَهُ إِلَى أَهَالِيهِمْ، وَهُمْ فَرِحُونَ مَسْرُورُونَ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْحَسَنَةَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، وَالْمُصِيبَةَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ، فَإِنْ ثَبَتَ بِخَبَرٍ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَالْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَى كُلِّ حَسَنَةٍ، وَعَلَى كُلِّ مُصِيبَةٍ، إِذِ الْمَعْلُومُ مِنْ حَالِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ حَسَنَةٍ وَعِنْدَ كُلِّ مُصِيبَةٍ بالوصف الذي ذكره الله هاهنا.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا وَفِيهِ أَقْوَالٌ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَنَا خَيْرٌ وَلَا شَرٌّ، وَلَا خَوْفٌ وَلَا رَجَاءٌ، وَلَا شِدَّةٌ وَلَا رَخَاءٌ، إِلَّا وَهُوَ مُقَدَّرٌ عَلَيْنَا مَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَكَوْنُهُ مَكْتُوبًا عِنْدَ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَعْلُومًا عِنْدَ اللَّهِ مَقْضِيًّا بِهِ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ، وَالْمُمْكِنُ لَا يَتَرَجَّحُ إِلَّا بِتَرْجِيحِ الْوَاجِبِ، وَالْمُمْكِنَاتُ بِأَسْرِهَا مُنْتَهِيَةٌ إِلَى قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ قَضَاءَ اللَّهِ شَامِلٌ لِكُلِّ الْمُحْدَثَاتِ وَأَنَّ تَغَيُّرَ الشَّيْءِ عَمَّا قَضَى اللَّهُ بِهِ مُحَالٌ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ، وَالْمُمْكِنُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ عَلَى الْآخَرِ لِنَفْسِهِ، فَوَجَبَ انْتِهَاؤُهُ إِلَى تَرْجِيحِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، وَمَا سِوَاهُ فَوَاجِبٌ بِإِيجَادِهِ وَتَأْثِيرِهِ وَتَكْوِينِهِ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى

قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»

وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا كَتَبَ جَمِيعَ الْأَحْوَالِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَقَدْ عَلِمَهَا وَحَكَمَ بِهَا، فَلَوْ وَقَعَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهَا لَزِمَ انْقِلَابُ الْعِلْمِ جَهْلًا وَالْحُكْمِ الصِّدْقِ كَذِبًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ، وَقَدْ أَطْنَبْنَا فِي شَرْحِ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَةِ: ٦] .

<<  <  ج: ص:  >  >>