ثم بين حال المحسن وقال:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٥٥ الى ٥٧]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (٥٧)
وَقَوْلُهُ: فِي شُغُلٍ يحتمل وجوها: أحدهما: فِي شُغُلٍ عَنْ هَوْلِ الْيَوْمِ بِأَخْذِ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الثَّوَابِ، فَمَا عِنْدَهُمْ خَبَرٌ مِنْ عَذَابٍ وَلَا حِسَابٍ، وَقَوْلُهُ: فاكِهُونَ يَكُونُ مُتَمِّمًا لِبَيَانِ سَلَامَتِهِمْ فَاللَّهُ لَوْ قَالَ:
فِي شُغُلٍ جَازَ أَنْ يُقَالَ هُمْ فِي شُغُلٍ عظم مِنَ التَّفَكُّرِ فِي الْيَوْمِ وَأَهْوَالِهِ، فَإِنَّ مَنْ يُصِيبُهُ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ ثُمَّ يُعْرَضُ عَلَيْهِ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِهِ وَيُخْبَرُ بِخُسْرَانٍ وَقَعَ فِي مَالِهِ، يَقُولُ أَنَا مَشْغُولٌ عَنْ هَذَا بِأَهَمَّ مِنْهُ، فَقَالَ: فاكِهُونَ أَيْ شُغِلُوا عَنْهُ بِاللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ لَا بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَيَانًا لِحَالِهِمْ وَلَا يُرِيدُ أَنَّهُمْ شُغِلُوا عَنْ شَيْءٍ بَلْ يَكُونُ مَعْنَاهُ هُمْ فِي عَمَلٍ، ثُمَّ بَيَّنَ عَمَلَهُمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَاقٍّ، بَلْ هُوَ مُلِذٌّ مَحْبُوبٌ وَثَالِثُهَا: فِي شُغُلٍ عَمَّا تَوَقَّعُوهُ فَإِنَّهُمْ تَصَوَّرُوا فِي الدُّنْيَا أُمُورًا وَقَالُوا نَحْنُ إِذَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ لَا نَطْلُبُ إِلَّا كَذَا وَكَذَا، فَرَأَوْا مَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ فَاشْتَغَلُوا بِهِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: غَيْرُ هَذِهِ ضَعِيفَةٌ أَحَدُهَا: قِيلَ افْتِضَاضُ الْأَبْكَارِ وَهَذَا مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ أَنَّ الْإِنْسَانَ/ قَدْ يَتَرَجَّحُ فِي نَظَرِهِ الْآنَ مُدَاعَبَةُ الْكَوَاعِبِ فَيَقُولُ فِي الْجَنَّةِ أَلْتَذُّ بِهَا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ رُبَّمَا يُؤْتِيهِ مَا يَشْغَلُهُ عَنْهَا وَثَانِيهَا قِيلَ فِي ضَرْبِ الْأَوْتَارِ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ تَوَهُّمٌ وَثَالِثُهَا فِي التَّزَاوُرِ وَرَابِعُهَا: فِي ضِيَافَةِ اللَّهِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قُلْنَا لِأَنَّ ضِيَافَةَ اللَّهِ تَكُونُ بِأَلَذِّ مَا يُمْكِنُ وَحِينَئِذٍ تَشْغَلُهُ تِلْكَ عَمَّا تَوَهَّمَهُ فِي دُنْيَاهُ وَقَوْلُهُ: فاكِهُونَ خبر إن، وفِي شُغُلٍ بَيَانُ مَا فَكَاهَتُهُمْ فِيهِ يُقَالُ زَيْدٌ عَلَى عَمَلِهِ مُقْبِلٌ، وَفِي بَيْتِهِ جَالِسٌ فَلَا يَكُونُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرًا وَلَوْ نَصَبْتَ جَالِسًا لكان الجار والمحرور خَبَرًا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ فِي شُغُلٍ فَاكِهِينَ لَكَانَ مَعْنَاهُ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ مَشْغُولُونَ فَاكِهِينَ عَلَى الْحَالِ وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ وَالْفَاكِهُ «١» الْمُلْتَذُّ الْمُتَنَعِّمُ بِهِ وَمِنْهُ الْفَاكِهَةُ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ فِي السَّعَةِ إِلَّا لِلَذَّةٍ فَلَا تُؤْكَلُ لِدَفْعِ أَلَمِ الْجُوعِ، وَفِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ. وَهُوَ أَنَّهُ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: فِي شُغُلٍ عَنْ عُدْمِهِمُ الْأَلَمَ فَلَا أَلَمَ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ بُقُولِهِ: فاكِهُونَ عَنْ وِجْدَانِهِمُ اللَّذَّةَ وَعَادِمُ الْأَلَمِ قَدْ لَا يَكُونُ وَاجِدًا لِلَذَّةٍ. فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ عَلَى أَتَمِّ حَالٍ ثُمَّ بَيَّنَ الْكَمَالَ بِقَوْلِهِ: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ فِي لَذَّةٍ قَدْ تَتَنَغَّصُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ تَفَكُّرِهِ فِي حَالِ مَنْ يُهِمُّهُ أَمْرُهُ فَقَالَ: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ أَيْضًا فَلَا يَبْقَى لَهُمْ تَعَلُّقُ قَلْبٍ، وَأَمَّا مَنْ فِي النَّارِ مِنْ أَقَارِبِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ فَيَكُونُونَ هُمْ عَنْهُمْ فِي شُغُلٍ، وَلَا يَكُونُ مِنْهُمْ عِنْدَهُمْ أَلَمٌ وَلَا يَشْتَهُونَ حُضُورَهُمْ وَالْأَزْوَاجُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَشْكَالُهُمْ فِي الْإِحْسَانِ وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ [ص: ٥٨] ، وَثَانِيهِمَا: الْأَزْوَاجُ هُمُ الْمَفْهُومُونَ مِنْ زَوْجِ الْمَرْأَةِ وَزَوْجَةِ الرَّجُلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [الْمَعَارِجِ: ٣٠] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَذَرُونَ أَزْواجاً [الْبَقَرَةِ: ٢٣٤] فَإِنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ هُوَ الْأَشْكَالَ، وَقَوْلُهُ: فِي ظِلالٍ جَمْعُ ظِلٍّ وَظُلَلٌ جَمْعُ ظُلَّةٍ وَالْمُرَادُ بِهِ الْوِقَايَةُ عَنْ مَكَانِ الْأَلَمِ، فَإِنَّ الْجَالِسَ تَحْتَ كِنٍّ لَا يَخْشَى الْمَطَرَ ولا حر الشمس فيكون به مُسْتَعِدًّا لِدَفْعِ الْأَلَمِ، فَكَذَلِكَ لَهُمْ مِنْ ظِلِّ اللَّهِ مَا يَقِيهِمُ الْأَسْوَاءَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ [فَاطِرٍ: ٣٥] وَقَالَ: لَا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً
(١) في طبعة بولاق «والفاكهة» وهو خطأ واضح، والفاكه اسم فاعل من فكه والتفكه التمتع والتعجب، والفاكهة المزاح.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute