[الْإِنْسَانِ: ١٣] إِشَارَةً إِلَى عَدَمِ الْآلَامِ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ أَيْضًا وَهِيَ أَنَّ حَالَ الْمُكَلَّفِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ اخْتِلَالُهَا بِسَبَبِ مَا فِيهِ مِنَ الشُّغُلِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَكَانٍ عَالٍ كَالْقَاعِدِ فِي حَرِّ الشَّمْسِ فِي الْبُسْتَانِ الْمُتَنَزَّهِ أَوْ يَكُونَ بِسَبَبِ الْمَكَانِ، وَإِنْ كَانَ الشُّغُلُ مَطْلُوبًا كَمُلَاعَبَةِ الْكَوَاعِبِ فِي الْمَكَانِ الْمَكْشُوفِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ الْمَأْكَلِ كَالْمُتَفَرِّجِ فِي الْبُسْتَانِ إِذَا أَعْوَزَهُ الطَّعَامُ، وَإِمَّا بِسَبَبِ فَقْدِ الْحَبِيبِ، وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ أَهْلُ الْقَلْبِ فِي شَرَائِطِ السَّمَاعِ بِقَوْلِهِمُ: الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ وَالْإِخْوَانُ فَقَالَ تَعَالَى: فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا فِي تَعَبٍ وَقَالَ:
هُمْ وَأَزْواجُهُمْ إِشَارَةً إِلَى عَدَمِ الْوَحْدَةِ الموحشة وقال: فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ إِشَارَةً إِلَى الْمَكَانِ وَقَالَ: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ إِشَارَةً إِلَى دَفْعِ جَمِيعِ حوائجهم وقوله: مُتَّكِؤُنَ إِشَارَةٌ إِلَى أَدَلِّ وَضْعٍ عَلَى الْقُوَّةِ وَالْفَرَاغَةِ فإن القائم قد يقوم لشغل والقائد قَدْ يَقْعُدُ لَهُمْ. وَأَمَّا الْمُتَّكِئُ فَلَا يَتَّكِئُ إِلَّا عِنْدَ الْفَرَاغِ وَالْقُدْرَةِ لِأَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاتِّكَاءِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُضْطَجِعًا أَوْ مُسْتَلْقِيًا وَالْأَرَائِكُ جَمْعُ أَرِيكَةٍ. وَهِيَ السَّرِيرُ الَّذِي عَلَيْهِ الْفَرْشُ وَهُوَ تَحْتَ الْحَجَلَاتِ فَيَكُونُ مَرْئِيًّا هُوَ/ وَمَا فَوْقَهُ وَقَوْلُهُ: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنْ لَا جُوعَ هُنَاكَ، وَلَيْسَ الْأَكْلُ لِدَفْعِ أَلَمِ الْجُوعِ، وَإِنَّمَا مَأْكُولُهُمْ فَاكِهَةٌ، وَلَوْ كَانَ لَحْمًا طَرِيًّا، لَا يُقَالُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الْوَاقِعَةِ: ٢١] يَدُلُّ عَلَى التَّغَايُرِ وَصِدْقِ الشَّهْوَةِ وَهُوَ الْجُوعُ لِأَنَّا نقول قوله: مِمَّا يَشْتَهُونَ يُؤَكِّدُ مَعْنَى عَدَمِ الْأَلَمِ لِأَنَّ أَكْلَ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ لِلتَّدَاوِي مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ فَقَالَ مِمَّا يَشْتَهُونَ لِأَنَّ لَحْمَ الطَّيْرِ فِي الدُّنْيَا يُؤْكَلُ فِي حَالَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: حَالَةُ التَّنَعُّمِ وَالثَّانِيَةُ: حَالَةُ ضَعْفِ الْمَعِدَةِ وَحِينَئِذٍ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ طَيْرٍ يَشْتَهِيهِ، وَإِنَّمَا يَأْكُلُ مَا يُوَافِقُهُ وَيَأْمُرُهُ بِهِ الطَّبِيبُ، وَأَمَّا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى التَّغَايُرِ، فنقول مسلم ذَلِكَ لِأَنَّ الْخَاصَّ يُخَالِفُ الْعَامَّ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي غَرَضِنَا، لِأَنَّا نَقُولُ إِنَّمَا اخْتَارَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَأْكُولِ الْفَاكِهَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهَا أَدَلُّ عَلَى التَّنَعُّمِ وَالتَّلَذُّذِ وَعَدَمِ الْجُوعِ وَالتَّنْكِيرُ لِبَيَانِ الْكَمَالِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا وَقَوْلُهُ: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَمْ يَقُلْ يَأْكُلُونَ، إِشَارَةً إِلَى كَوْنِ زِمَامِ الِاخْتِيَارِ بِيَدِهِمْ وَكَوْنِهِمْ مَالِكِينَ وَقَادِرِينَ وَقَوْلُهُ: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ فيه وجوه: أحدها: لهم فيها مَا يَدَّعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ أَيْ دُعَاؤُهُمْ مُسْتَجَابٌ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا افْتِعَالًا بِمَعْنَى الْفِعْلِ كَالِاحْتِمَالِ بِمَعْنَى الْحَمْلِ وَالِارْتِحَالِ بِمَعْنَى الرَّحِيلِ، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ دُعَاءً فَيُسْتَجَابُ دُعَاؤُهُمْ بَعْدَ الطَّلَبِ بَلْ مَعْنَاهُ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ أَيْ ذَلِكَ لَهُمْ فَلَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَى الدُّعَاءِ وَالطَّلَبِ، كَمَا أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا طَلَبَ مِنْهُ مَمْلُوكُهُ شَيْئًا يَقُولُ لَكَ ذَلِكَ فَيُفْهَمُ مِنْهُ تَارَةً أَنَّ طَلَبَكَ مُجَابٌ وَأَنَّ هَذَا أَمْرٌ هَيِّنٌ بِأَنْ تُعْطَى مَا طَلَبْتَ، وَيُفْهَمُ تَارَةً مِنْهُ الرَّدُّ وَبَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ لَكَ حَاصِلٌ فَلِمَ تَطْلُبُهُ فَقَالَ تَعَالَى: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ وَيَطْلُبُونَ فَلَا طَلَبَ لَهُمْ وَتَقْرِيرُهُ هُوَ أَنْ يَكُونَ مَا يَدَّعُونَ بِمَعْنَى مَا يَصِحُّ أَنْ يُطْلَبَ وَيُدَّعَى يَعْنِي كُلَّ مَا يَصِحُّ أَنْ يُطْلَبَ فَهُوَ حَاصِلٌ لَهُمْ قَبْلَ الطَّلَبِ، أَوْ نَقُولُ الْمُرَادُ الطَّلَبُ وَالْإِجَابَةُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّلَبَ مِنَ اللَّهِ أَيْضًا فِيهِ لَذَّةٌ فَلَوْ قَطَعَ اللَّهُ الْأَسْبَابَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ لَمَا كَانَ يَطِيبُ لَهُمْ فَأَبْقَى أَشْيَاءَ يُعْطِيهِمْ إِيَّاهَا عِنْدَ الطَّلَبِ لِيَكُونَ لَهُمْ عِنْدَ الطَّلَبِ لَذَّةٌ وَعِنْدَ الْعَطَاءِ، فَإِنَّ كَوْنَ الْمَمْلُوكِ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُخَاطِبَ الْمَلِكَ فِي حَوَائِجِهِ مَنْصِبٌ عَظِيمٌ، وَالْمَلِكُ الْجَبَّارُ قَدْ يَدْفَعُ حَوَائِجَ الْمَمَالِيكِ بِأَسْرِهَا قَصْدًا مِنْهُ لِئَلَّا يُخَاطَبَ الثَّانِي: مَا يَدَّعُونَ مَا يَتَدَاعُونَ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ افْتِعَالًا بِمَعْنَى التَّفَاعُلِ كَالِاقْتِتَالِ بِمَعْنَى التَّقَاتُلِ، وَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا يَصِحُّ أَنْ يَدْعُوَ أَحَدٌ صَاحِبَهُ إِلَيْهِ أَوْ يَطْلُبَهُ أَحَدٌ مِنْ صَاحِبِهِ فَهُوَ حَاصِلٌ لَهُمْ الثَّالِثُ: مَا يَتَمَنَّوْنَهُ الرَّابِعُ: بِمَعْنَى الدَّعْوَى وَمَعْنَاهُ حِينَئِذٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ فِي الدُّنْيَا أَنَّ لَهُمُ اللَّهَ وَهُوَ مَوْلَاهُمْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ. فَقَالَ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مَا يَدَّعُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَتَكُونُ الْحِكَايَةُ مَحْكِيَّةً فِي الدُّنْيَا، كَأَنَّهُ يَقُولُ فِي يَوْمِنَا هَذَا لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ غَدًا مَا تَدَّعُونَ الْيَوْمَ، لَا يُقَالُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute