للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَبْصَارِ عَيْنَ الْأَبْصَارِ. أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُبْصِرِينَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ وَجَبَ الْحُكْمُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى رَائِيًا لِرُؤْيَةِ الرَّائِينَ وَلِأَبْصَارِ الْمُبْصِرِينَ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى يَرَى جَمِيعَ الْمَرْئِيَّاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ وَجَبَ الْحُكْمُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى رَائِيًا لِلْمُبْصِرِينَ، فَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُبْصِرًا لِلْمُبْصَرَاتِ رَائِيًا لِلْمَرْئِيَّاتِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ يُفِيدُ الْحَصْرَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَلَا يُدْرِكُهَا غَيْرُ اللَّه تَعَالَى، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي بِهِ يَصِيرُ الْحَيُّ رَائِيًا لِلْمَرْئِيَّاتِ وَمُبْصِرًا لِلْمُبْصَرَاتِ وَمُدْرِكًا لِلْمُدْرَكَاتِ، أَمْرٌ عَجِيبٌ وَمَاهِيَّةٌ شَرِيفَةٌ، لَا يُحِيطُ الْعَقْلُ بِكُنْهِهَا. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى مُدْرِكٌ لِحَقِيقَتِهَا مُطَّلِعٌ عَلَى مَاهِيَّتِهَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ هُوَ أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْقُوَى الْمُدْرَكَةِ لَا تُحِيطُ بِحَقِيقَتِهِ، وَأَنَّ عَقْلًا مِنَ الْعُقُولِ لَا يَقِفُ عَلَى كُنْهِ صَمَدِيَّتِهِ، فَكَلَّتِ الْأَبْصَارُ عَنْ إِدْرَاكِهِ، وَارْتَدَعَتِ الْعُقُولُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى مَيَادِينِ عِزَّتِهِ، / وَكَمَا أَنَّ شَيْئًا لَا يُحِيطُ بِهِ، فَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِالْكُلِّ، وَإِدْرَاكُهُ مُتَنَاوَلٌ لِلْكُلِّ، فَهَذَا كَيْفِيَّةُ نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ اللَّطَافَةُ ضِدُّ الْكَثَافَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الرِّقَّةُ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّه مُمْتَنِعٌ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ فِيهِ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ لُطْفُ صُنْعِهِ فِي تَرْكِيبِ أَبْدَانِ الْحَيَوَانَاتِ مِنَ الْأَجْزَاءِ الدَّقِيقَةِ، وَالْأَغْشِيَةِ الرَّقِيقَةِ وَالْمَنَافِذِ الضَّيِّقَةِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّه تَعَالَى.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَطِيفٌ فِي الْإِنْعَامِ وَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ.

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ، حَيْثُ يُثْنِي عَلَيْهِمْ عِنْدَ الطَّاعَةِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالتَّوْبَةِ عِنْدَ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا يَقْطَعُ عَنْهُمْ سَوَادَ رحمته سواء كانوا مطيعين أو عُصَاةً.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَطِيفٌ بِهِمْ حَيْثُ لَا يَأْمُرُهُمْ فَوْقَ طَاقَتِهِمْ، وَيُنْعِمُ عَلَيْهِمْ بِمَا هُوَ فَوْقَ اسْتِحْقَاقِهِمْ. وَأَمَّا الْخَبِيرُ: فَهُوَ مِنَ الْخَبَرِ وَهُوَ الْعِلْمُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ مَعَ كَوْنِهِ عَالِمًا بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْقَبَائِحِ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» اللَّطِيفُ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَلْطُفُ عَنْ أَنْ تُدْرِكَهُ الْأَبْصَارُ الْخَبِيرُ بِكُلِّ لَطِيفٍ، فَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَلَا يَلْطُفُ شَيْءٌ عَنْ إِدْرَاكِهِ، وَهَذَا وجه حسن.

[[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٤]]

قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤)

فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ هَذِهِ الْبَيَانَاتِ الظَّاهِرَةَ، وَالدَّلَائِلَ الْقَاهِرَةَ فِي هَذِهِ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ الشَّرِيفَةِ الْإِلَهِيَّةِ. عَادَ إِلَى تَقْرِيرِ أَمْرِ الدَّعْوَى وَالتَّبْلِيغِ وَالرِّسَالَةِ فَقَالَ: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَالْبَصَائِرُ جَمْعُ الْبَصِيرَةِ، وَكَمَا أَنَّ الْبَصَرَ اسْمٌ لِلْإِدْرَاكِ التَّامِّ الْكَامِلِ الْحَاصِلِ بِالْعَيْنِ الَّتِي فِي الرَّأْسِ، فَالْبَصِيرَةُ اسْمٌ لِلْإِدْرَاكِ التَّامِّ الْحَاصِلِ فِي الْقَلْبِ. قَالَ تَعَالَى: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ

[الْقِيَامَةِ: ١٤] أَيْ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَهِيَ فِي أَنْفُسِهَا لَيْسَتْ بَصَائِرَ إِلَّا أَنَّهَا لِقُوَّتِهَا وَجَلَالَتِهَا تُوجِبُ الْبَصَائِرَ لِمَنْ عَرَفَهَا، وَوَقَفَ عَلَى حَقَائِقِهَا، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَسْبَابًا لِحُصُولِ الْبَصَائِرِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>