للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة العصر]

ثلاث آيات مكية

[[سورة العصر (١٠٣) : آية ١]]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْعَصْرِ (١)

اعْلَمْ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْعَصْرِ أَقْوَالًا.

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الدَّهْرُ، وَاحْتَجَّ هَذَا الْقَائِلُ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: مَا

رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَقْسَمَ بِالدَّهْرِ، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقْرَأُ: وَالْعَصْرِ وَنَوَائِبِ الدَّهْرِ

إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: هَذَا مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ، فَلَا نَقُولُ: إِنَّهُ قَرَأَهُ قُرْآنًا بَلْ تَفْسِيرًا، وَلَعَلَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرِ الدَّهْرَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْمُلْحِدَ مُولَعٌ بِذِكْرِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَمِنْ ذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي: هَلْ أَتى [الْإِنْسَانِ: ١] رَدًّا عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ بِالطَّبْعِ وَالدَّهْرِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الدَّهْرَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَعَاجِيبِ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ فِيهِ السَّرَّاءُ وَالضَّرَّاءُ، وَالصِّحَّةُ وَالسُّقْمُ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرُ، بَلْ فِيهِ مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ كُلِّ عَجَبٍ، وَهُوَ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يَقْوَى عَلَى أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِالْعَدَمِ، فَإِنَّهُ مُجَزَّأٌ مُقَسَّمٌ بِالسَّنَةِ وَالشَّهْرِ وَالْيَوْمِ وَالسَّاعَةِ وَمَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالْمُطَابَقَةِ، وَكَوْنِهِ مَاضِيًا وَمُسْتَقْبَلًا، فَكَيْفَ يَكُونُ مَعْدُومًا؟ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِالْوُجُودِ لِأَنَّ الْحَاضِرَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْقِسْمَةِ وَالْمَاضِيَ وَالْمُسْتَقْبَلَ مَعْدُومَانِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالْوُجُودِ؟ وَثَالِثُهَا: أَنَّ بَقِيَّةَ عُمُرِ الْمَرْءِ لَا قِيمَةَ لَهُ، فَلَوْ ضيعت ألف سنة، ثم تبث فِي اللَّمْحَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الْعُمُرِ بَقِيتَ فِي الْجَنَّةِ أَبَدَ الْآبَادِ فَعَلِمْتَ حِينَئِذٍ أَنَّ أَشْرَفَ الْأَشْيَاءِ حَيَاتُكَ فِي تِلْكَ اللَّمْحَةِ، فَكَأَنَّ الدَّهْرَ وَالزَّمَانَ مِنْ جُمْلَةِ أُصُولِ النِّعَمِ، فَلِذَلِكَ أَقْسَمَ بِهِ وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ فُرْصَةٌ يُضَيِّعُهَا الْمُكَلَّفُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً [الْفُرْقَانِ: ٦٢] وَرَابِعُهَا: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢] : قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَكَانِ وَالْمَكَانِيَّاتِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الزَّمَانِ وَالزَّمَانِيَّاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هناك أن الزمان أعلم وَأَشْرَفُ مِنَ الْمَكَانِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْقَسَمُ بِالْعَصْرِ قَسَمًا بِأَشْرَفِ النِّصْفَيْنِ مِنْ مُلْكِ اللَّهِ وَمَلَكُوتِهِ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يُضِيفُونَ الْخُسْرَانَ إِلَى نَوَائِبِ الدَّهْرِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ عَلَى أَنَّ الدَّهْرَ وَالْعَصْرَ نِعْمَةٌ حَاصِلَةٌ لَا عَيْبَ فِيهَا، إِنَّمَا الْخَاسِرُ الْمَعِيبُ هُوَ الْإِنْسَانُ وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْعَصْرَ الَّذِي بِمُضِيِّهِ يَنْتَقِصُ عُمُرُكُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مُقَابَلَتِهِ/ كَسْبٌ صار ذلك النقصان عن الْخُسْرَانِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: لَفِي خُسْرٍ وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ:

إِنَّا لَنَفْرَحُ بِالْأَيَّامِ نَقْطَعُهَا ... وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى نَقْصٌ مِنَ الْأَجَلِ

فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: وَالْعَصْرِ الْعَجِيبِ أَمْرُهُ حَيْثُ يَفْرَحُ الْإِنْسَانُ بِمُضِيِّهِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ وَجَدَ الرِّبْحَ مَعَ أَنَّهُ هَدْمٌ لِعُمُرِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>