للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِلتَّصْدِيقَاتِ النَّظَرِيَّةِ لَمْ تَكُنِ التَّصْدِيقَاتُ النَّظَرِيَّةُ كَسَبِيَّةً، لِأَنَّ لَازِمَ الضَّرُورِيِّ ضَرُورِيٌّ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَلْزِمَةً لَهَا لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي فَرَضْنَاهَا عُلُومًا نَظَرِيَّةً كَذَلِكَ بَلْ هِيَ اعْتِقَادَاتٌ تَقْلِيدِيَّةٌ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِاعْتِقَادِ الْمُقَلِّدِ إِلَّا اعْتِقَادٌ تَحْسِينِيٌّ يَفْعَلُهُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يكون له موجب فثبت هذا أَنَّ الْعُلُومَ بِأَسْرِهَا ضَرُورِيَّةٌ، وَثَبَتَ أَنَّ مَبَادِئَ الْأَفْعَالِ هِيَ الْعُلُومُ فَأَفْعَالُ الْعِبَادِ بِأَسْرِهَا ضَرُورِيَّةٌ، وَالْإِنْسَانُ مُضْطَرٌّ فِي صُورَةِ مُخْتَارٍ، فَثَبَتَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى هُوَ الَّذِي زَيَّنَ لِكُلِّ عَامِلٍ عَمَلَهُ. وَالْمُرَادُ مِنَ التَّزْيِينِ هُوَ أَنَّهُ يَخْلُقُ فِي قَلْبِهِ الْعِلْمَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَاللَّذَّاتِ وَلَا يَخْلُقُ فِي قَلْبِهِ الْعِلْمَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَضَارِّ وَالْآفَاتِ، فَقَدْ ثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ الْعَقْلِيَّةِ وُجُوبُ إِجْرَاءِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا، أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي تَأْوِيلِهَا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بَيَّنَّا لَهُمْ أَمْرَ الدِّينِ وَمَا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِهِ وَزَيَّنَّاهُ بِأَنْ بَيَّنَّا حُسْنَهُ وَمَا لَهُمْ فِيهِ مِنَ الثَّوَابِ، لِأَنَّ التَّزْيِينَ مِنَ اللَّه تَعَالَى لِلْعَمَلِ لَيْسَ إِلَّا وَصْفُهُ بِأَنَّهُ حَسَنٌ وَوَاجِبٌ وَحَمِيدُ الْعَاقِبَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الْحُجُرَاتِ: ٧] وَمَعْنَى فَهُمْ يَعْمَهُونَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ فَهُمْ يَعْدِلُونَ وَيَنْحَرِفُونَ عَمَّا زَيَّنَّا مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَتَّعَهُمْ بِطُولِ الْعُمُرِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ جَعَلُوا إِنْعَامَ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ ذَرِيعَةً إِلَى اتِّبَاعِ شَهَوَاتِهِمْ وَعَدَمِ الِانْقِيَادِ لِمَا يَلْزَمُهُمْ مِنَ التَّكَالِيفِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى زَيَّنَ بِذَلِكَ أَعْمَالَهُمْ وَإِلَيْهِ إِشَارَةُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِمْ:

وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ [الْفُرْقَانِ: ١٨] وَثَالِثُهَا: أَنَّ إِمْهَالَهُ الشَّيْطَانَ وَتَخْلِيَتَهُ حَتَّى يُزَيِّنَ لَهُمْ مُلَابَسَةٌ ظَاهِرَةٌ/ لِلتَّزْيِينِ فَأُسْنِدَ إِلَيْهِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَعْمالَهُمْ صيغة حتى عُمُومٍ تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ اللَّه تَعَالَى قَدْ زَيَّنَ لَهُمْ كُلَّ أَعْمَالِهِمْ حَسَنًا كَانَ الْعَمَلُ أَوْ قَبِيحًا وَمَعْنَى التَّزْيِينِ قَدْ قَدَّمْنَاهُ، وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا مَتَّعَهُمْ بِطُولِ الْعُمُرِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ فَهَلْ لِهَذِهِ الْأُمُورِ أَثَرٌ فِي تَرْجِيحِ فَاعِلِيَّةِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى تَرْكِهَا أَوْ لَيْسَ لَهَا فِيهِ أَثَرٌ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ التَّرْجِيحَ مَتَى حَصَلَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى حَدِّ الِاسْتِلْزَامِ وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الْغَرَضُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَثَرٌ صَارَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَعْمَالِهِمْ كَصَرِيرِ الْبَابِ وَنَعِيقِ الْغُرَابِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ إِسْنَادِ فِعْلِهِمْ إِلَيْهَا وَهَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ الْجَوَابُ عَنِ التَّأْوِيلِ الثَّالِثِ الَّذِي ذَكَرُوهُ واللَّه أَعْلَمُ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهُمْ يَعْمَهُونَ فَالْعَمَهُ التَّحَيُّرُ وَالتَّرَدُّدُ كَمَا يَكُونُ حَالُ الضَّالِّ عَنِ الطَّرِيقِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ يَوْمَ بَدْرٍ وَالثَّانِي:

مُطْلَقُ الْعَذَابِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ وَالْمُرَادُ بِالسُّوءِ شَدَّتُهُ وَعِظَمُهُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: هُمُ الْأَخْسَرُونَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا خُسْرَانَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَخْسَرَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ بِأَنْ يُسْلَبَ عَنْهُ الصِّحَّةُ وَالسَّلَامَةُ فِي الدُّنْيَا وَيُسْلَمَ فِي الْآخِرَةِ إِلَى الْعَذَابِ الْعَظِيمِ الثَّانِي: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ خَسِرُوا مَنَازِلَهُمْ فِي الْجَنَّةِ لَوْ أَطَاعُوا، فَإِنَّهُ لَا مُكَلَّفَ إِلَّا وَعُيِّنَ لَهُ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ لَوْ أَطَاعَ فَإِذَا عَصَى عُدِلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ فيكون قد خسر ذلك المنزل.

[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦ الى ٩]

وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يَا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩)

<<  <  ج: ص:  >  >>