الْمُخْلِصِينَ ابْتِدَاءً، وَكَيْفَ يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ تَعَالَى مَا خَلَقَ كُلَّ هَذَا الْعَالَمِ إِلَّا لِدَاعِيَةِ الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى اسم الفاعل على أنه خبر أن والسموات وَالْأَرْضُ عَلَى الْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِ: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [إبراهيم: ١٠] . فالِقُ الْإِصْباحِ [الْأَنْعَامِ: ٩٥] . وجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً [الْأَنْعَامِ: ٩٦] والباقون خَلَقَ على فعل الماضي: السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالنَّصْبِ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: بِالْحَقِّ نَظِيرٌ لِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ: مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ [يُونُسَ: ٥] وَلِقَوْلِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا [آلِ عِمْرَانَ: ١٩١] وَلِقَوْلِهِ فِي ص: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [ص: ٢٧] أَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَهُوَ دَلَالَتُهُمَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَيَقُولُونَ: إِلَّا بِالْحَقِّ، أَيْ لَمْ يَخْلُقْ ذَلِكَ عَبَثًا بَلْ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى خلق السموات وَالْأَرْضِ بِالْحَقِّ، فَبِأَنْ يَقْدِرَ عَلَى إِفْنَاءِ قَوْمٍ وَإِمَاتَتِهِمْ وَعَلَى إِيجَادِ آخَرِينَ وَإِحْيَائِهِمْ كَانَ أَوْلَى، لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْأَصْعَبِ الْأَعْظَمِ بِأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْأَسْهَلِ الْأَضْعَفِ أَوْلَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا الْخِطَابُ مَعَ كُفَّارِ مَكَّةَ، يُرِيدُ أُمِيتُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْكُفَّارِ، وَأَخْلُقُ قَوْمًا خَيْرًا مِنْكُمْ وَأَطْوَعَ مِنْكُمْ.
ثم قال: وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أَيْ مُمْتَنِعٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى إِفْنَاءِ كُلِّ الْعَالَمِ وَإِيجَادِهِ بِأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِفْنَاءِ أَشْخَاصٍ مَخْصُوصِينَ وإيجاده أمثالهم أولى وأحرى، والله أعلم.
[[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٢١]]
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَصْنَافَ عَذَابِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ تَصِيرُ مُحْبَطَةً بَاطِلَةً، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَيْفِيَّةَ خَجَالَتِهِمْ عِنْدَ تَمَسُّكِ أَتْبَاعِهِمْ وَكَيْفِيَّةَ افْتِضَاحِهِمْ عِنْدَهُمْ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْعَذَابِ الرُّوحَانِيِّ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ الْفَضِيحَةِ وَالْخَجَالَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: بَرَزَ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ ظَهَرَ بَعْدَ الْخَفَاءِ. وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْمَكَانِ الْوَاسِعِ: الْبَرَازُ لِظُهُورِهِ، وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الْكَهْفِ: ٤٧] أَيْ ظَاهِرَةً لَا يَسْتُرُهَا شَيْءٌ، وَامْرَأَةٌ بَرْزَةٌ إِذَا كَانَتْ تَظْهَرُ لِلنَّاسِ.
وَيُقَالُ: بَرَزَ فُلَانٌ عَلَى أَقْرَانِهِ إِذَا فَاقَهُمْ وَسَبَقَهُمْ، وَأَصْلُهُ فِي الْخَيْلِ إِذَا سَبَقَ أَحَدُهَا. قِيلَ: بَرَزَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ غِمَارِهَا فَظَهَرَ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فنقول: هاهنا أَبْحَاثٌ:
البحث الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَبَرَزُوا وَرَدَ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الِاسْتِقْبَالَ، لِأَنَّ كُلَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى