عَنْهُ فَهُوَ صِدْقٌ وَحَقٌّ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ وَدَخَلَ فِي الْوُجُودِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَافِ: ٥٠] .
البحث الثَّانِي: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْبُرُوزَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الظُّهُورِ بَعْدَ الِاسْتِتَارِ وَهَذَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَتِرُونَ مِنَ الْعُيُونِ عِنْدَ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ وَيَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ خَافٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ انْكَشَفُوا لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ وَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ فَبَرَزُوا لِحِسَابِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ. الثَّالِثُ: وَهُوَ تَأْوِيلُ الْحُكَمَاءِ أَنَّ النَّفْسَ إِذَا فَارَقَتِ الْجَسَدَ فَكَأَنَّهُ زَالَ الْغِطَاءُ وَالْوِطَاءُ وَبَقِيَتْ مُتَجَرِّدَةً بِذَاتِهَا عَارِيَةً عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهَا وَذَلِكَ هُوَ الْبُرُوزُ لِلَّهِ.
البحث الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ قَوْلُهُ: وَبَرَزُوا لِلَّهِ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الآية السابقة: وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ: [إبراهيم: ١٧] .
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَبَرَزُوا لِلَّهِ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ [الطَّارِقِ: ٩، ١٠] وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَوَاطِنَ تَظْهَرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَالْأَحْوَالَ الْكَامِنَةَ تَنْكَشِفُ فَإِنْ كَانُوا مِنَ السُّعَدَاءِ بَرَزُوا لِلْحَاكِمِ الْحَكِيمِ بِصِفَاتِهِمُ الْقُدُسِيَّةِ، وَأَحْوَالِهِمُ الْعُلْوِيَّةِ، وَوُجُوهِهِمُ الْمُشْرِقَةِ، وَأَرْوَاحِهِمُ الصَّافِيَةِ الْمُسْتَنِيرَةِ فَيَتَجَلَّى لَهَا نُورُ الْجَلَالِ، وَيَعْظُمُ فِيهَا إِشْرَاقُ عَالَمِ الْقُدُسِ، فَمَا أَجَلَّ تِلْكَ الْأَحْوَالَ وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْأَشْقِيَاءِ بَرَزُوا لِمَوْقِفِ الْعَظَمَةِ، وَمَنَازِلِ الْكِبْرِيَاءِ ذَلِيلِينَ مَهِينِينَ خَاضِعِينَ خَاشِعِينَ وَاقِعِينَ فِي خِزْيِ الْخَجَالَةِ، وَمَذَلَّةِ الْفَضِيحَةِ، وَمَوْقِفِ الْمَهَانَةِ وَالْفَزَعِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا. ثُمَّ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الضُّعَفَاءَ يَقُولُونَ لِلرُّؤَسَاءِ: هَلْ تَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِ عَذَابِ اللَّهِ عَنَّا؟ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِنَّمَا اتَّبَعْنَاكُمْ لِهَذَا الْيَوْمِ، ثُمَّ إِنَّ الرُّؤَسَاءَ يَعْتَرِفُونَ بِالْخِزْيِ وَالْعَجْزِ وَالذُّلِّ. قَالُوا:
سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ اعْتِرَافَ الرُّؤَسَاءِ وَالسَّادَةِ وَالْمَتْبُوعِينَ بِمِثْلِ هَذَا الْعَجْزِ وَالْخِزْيِ وَالنَّكَالِ يُوجِبُ الْخَجَالَةَ الْعَظِيمَةَ وَالْخِزْيَ الْكَامِلَ التَّامَّ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ مَنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ:
اسْتِيلَاءَ عَذَابِ الْفَضِيحَةِ وَالْخَجَالَةِ وَالْخِزْيِ عَلَيْهِمْ مَعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ سَائِرِ وُجُوهِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَالْعِقَابِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: كَتَبُوا الضعفاء بِوَاوٍ قَبْلَ الْهَمْزَةِ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ كُتِبَ عَلَى لَفْظِ مَنْ يُفَخِّمُ الْأَلِفَ قَبْلَ الْهَمْزَةِ فَيُمِيلُهَا إِلَى الْوَاوِ، وَنَظِيرُهُ علماء بَنِي إِسْرَائِيلَ.
المسألة الثَّالِثَةُ: الضُّعَفَاءُ الْأَتْبَاعُ وَالْعَوَامُّ، وَالَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا هُمُ السَّادَةُ وَالْكُبَرَاءُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ أَكَابِرُهُمُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً أَيْ فِي الدُّنْيَا. قَالَ الْفَرَّاءُ وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ:
التَّبَعُ تَابِعٌ مِثْلُ خَادِمٍ وَخَدَمٍ وَبَاقِرٍ وَبَقَرٍ وَحَارِسٍ وَحَرَسٍ وَرَاصِدٍ وَرَصَدٍ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا سُمِّيَ بِهِ، أَيْ كُنَّا ذَوِي تَبَعٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ التَّبَعِيَّةَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْهَا التَّبَعِيَّةُ فِي الْكُفْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا التَّبَعِيَّةَ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا: فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أَيْ هَلْ يُمْكِنُكُمْ دَفْعُ عَذَابِ اللَّهِ عَنَّا.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ عَذابِ اللَّهِ وَبَيْنَهُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَيْءٍ.
قُلْنَا: كِلَاهُمَا لِلتَّبْعِيضِ بِمَعْنَى: هَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا بَعْضَ شَيْءٍ هُوَ عَذَابُ اللَّهِ أَيْ بَعْضُ عَذَابِ اللَّهِ وَعِنْدَ هَذَا