تَعَالَى: وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مَعْنَاهُ: وَمَا بَلَغَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِعْشَارَ مَا آتَيْنَا الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْقُوَّةِ وَالنِّعْمَةِ وَطُولِ الْعُمُرِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَخَذَهُمْ وَمَا نَفَعَتْهُمْ قُوَّتُهُمْ، فَكَيْفَ حَالُ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ، وَعِنْدِي [أَنَّهُ] يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ أَيِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَا قَوْمَ مُحَمَّدٍ مِنَ الْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كِتَابَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكْمَلُ مِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ وَأَوْضَحُ، وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الرُّسُلِ وأفصح، وبرهانه أو في، وَبَيَانُهُ أَشَفَى، ثُمَّ إِنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ لَمَّا كَذَّبُوا بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْكُتُبِ وَبِمَنْ أَتَاهُمْ مِنَ الرُّسُلِ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَكَيْفَ لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ كَذَّبُوا بِأَفْصَحِ الرُّسُلِ، وَأَوْضَحِ السُّبُلِ، يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها يَعْنِي غَيْرَ الْقُرْآنِ مَا آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ، فَلَمَّا كَانَ الْمُؤْتَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى هُوَ الْكِتَابَ، فَحَمْلُ الْإِيتَاءِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى إِيتَاءِ الْكِتَابِ أَوْلَى. ثُمَّ قَالَ تعالى:
[[سورة سبإ (٣٤) : آية ٤٦]]
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦)
ذَكَرَ الْأُصُولَ الثَّلَاثَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ مَا سَبَقَ مِنْهُ تَقْرِيرُهَا بِالدَّلَائِلِ فَقَوْلُهُ: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّوْحِيدِ وَقَوْلُهُ: مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الرِّسَالَةِ وَقَوْلُهُ: بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ إِشَارَةٌ إِلَى اليوم الآخرة وفي الآية مسائل:
الْأُولَى: قَوْلُهُ: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ، وَالْإِيمَانُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالِاعْتِرَافِ بِالرِّسَالَةِ وَالْحَشْرِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْحَصْرُ الْمَذْكُورُ بِقَوْلِهِ: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ فَنَقُولُ التَّوْحِيدُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ حَقَّ التَّوْحِيدِ يَشْرَحُ اللَّهُ صَدْرَهُ وَيَرْفَعُ فِي الْآخِرَةِ قَدْرَهُ فالنبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِمَا يَفْتَحُ عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الْعِبَادَاتِ ويهيء لَهُمْ أَسْبَابَ السَّعَادَاتِ، وَجَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مَا قَالَ إِنِّي لَا آمُرُكُمْ فِي جَمِيعِ عُمُرِي إِلَّا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا قَالَ أَعِظُكُمْ أَوَّلًا بِالتَّوْحِيدِ وَلَا آمُرُكُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ سَابِقٌ عَلَى الْكُلِّ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا فَإِنَّ التَّفَكُّرَ أَيْضًا صَارَ مَأْمُورًا بِهِ وَمَوْعُوظًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: بِواحِدَةٍ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّثَهَا عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ خَصْلَةٍ أَيْ أَعِظُكُمْ بِخَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ حَسَنَةٌ وَإِحْسَانٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النَّحْلِ: ٢٩] أَنَّ الْعَدْلَ نَفْيُ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ وَالْإِحْسَانَ إِثْبَاتُ الْإِلَهِيَّةِ لَهُ، وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرَّحْمَنِ: ٦٠] أَنَّ الْمُرَادَ هَلْ جَزَاءُ الْإِيمَانِ إِلَّا الْجِنَانُ، وَكَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ [فُصِّلَتْ: ٣٣] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: مَثْنى وَفُرادى إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ غَيْرِهِ أَوْ يَكُونَ وَحْدَهُ، فَإِذَا كَانَ مَعَ غَيْرِهِ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ: مَثْنى وَإِذَا كَانَ وَحْدَهُ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ: فُرادى فَكَأَنَّهُ يَقُولُ تَقُومُوا لِلَّهِ مُجْتَمِعِينَ وَمُنْفَرِدِينَ لَا تَمْنَعُكُمُ الْجَمْعِيَّةُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَلَا يُحْوِجُكُمُ الِانْفِرَادُ إِلَى مُعِينٍ يُعِينُكُمْ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute