للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الْأَنْعَامِ: ١٥٨] فَيَكُونُ مَا عَمِلَهُ الْإِنْسَانُ إِلَى تِلْكَ الْغَايَةِ، هُوَ أَوَّلُ أَعْمَالِهِ وَآخِرُهَا، لِأَنَّهُ لَا عَمَلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا الْقَوْلُ ذَكَرَهُ القفال. قوله تعالى:

[سورة الانفطار (٨٢) : الآيات ٦ الى ٨]

يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨)

[في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَخْبَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَنْ وُقُوعِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَقْلًا عَلَى إِمْكَانِهِ أَوْ عَلَى وُقُوعِهِ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِلَهَ الْكَرِيمَ الَّذِي لَا يَجُوزُ مِنْ كَرَمِهِ أَنْ يَقْطَعَ مَوَائِدَ نِعَمِهِ عَنِ الْمُذْنِبِينَ، كَيْفَ يَجُوزُ فِي كَرَمِهِ أَنْ لَا يَنْتَقِمَ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ؟ الثَّانِي: أَنَّ الْقَادِرَ الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ الْبِنْيَةَ الْإِنْسَانِيَّةَ ثُمَّ سَوَّاهَا وَعَدَّلَهَا، إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ خَلَقَهَا لَا لِحِكْمَةٍ أَوْ لِحِكْمَةٍ، فَإِنْ خَلَقَهَا لَا لِحِكْمَةٍ كَانَ ذَلِكَ عَبَثًا، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى الْحَكِيمِ، وَإِنْ خَلَقَهَا لِحِكْمَةٍ، فَتِلْكَ الْحِكْمَةُ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إِلَى الْعَبْدِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَعَالٍ عَنِ الِاسْتِكْمَالِ وَالِانْتِفَاعِ. فَتَعَيَّنَ الثَّانِيَ، وَهُوَ أَنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ لِحِكْمَةٍ عَائِدَةٍ إِلَى الْعَبْدِ، وَتِلْكَ الْحِكْمَةُ إِمَّا أَنْ تَظْهَرَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي دَارٍ سِوَى الدُّنْيَا. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الدُّنْيَا دَارُ بَلَاءٍ وَامْتِحَانٍ، لَا دَارَ الِانْتِفَاعِ وَالْجَزَاءِ، وَلَمَّا بَطَلَ كُلُّ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ بَعْدَ هَذِهِ الدَّارِ مِنْ دَارٍ أُخْرَى، فَثَبَتَ أَنَّ الِاعْتِرَافَ بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْكَرِيمِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْخَلْقِ وَالتَّسْوِيَةِ وَالتَّعْدِيلِ يُوجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَقْطَعَ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَبْعَثُ الْأَمْوَاتَ وَيَحْشُرُهُمْ، وَذَلِكَ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِعَدَمِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ هُوَ الَّذِي ذُكِرَ بِعَيْنِهِ فِي سُورَةِ التِّينِ حَيْثُ قَالَ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ إِلَى أَنْ قَالَ: فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ [التِّينِ:

٤- ٧] وَهَذِهِ الْمُحَاجَّةُ تَصْلُحُ مَعَ الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ وَيُنْكِرُونَ الْإِعَادَةَ، وَتَصْلُحُ أَيْضًا مَعَ مَنْ يَنْفِي الِابْتِدَاءَ وَالْإِعَادَةَ مَعًا، لِأَنَّ الْخَلْقَ الْمُعَدَّلَ يَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ وَبِوَاسِطَتِهِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، فَإِنْ قِيلَ: بِنَاءُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى حَكِيمٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي سُورَةِ التِّينِ بَعْدَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ [التِّينِ: ٨] فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْحَكِيمِ الْجَوَابُ: أَنَّ الْكَرِيمَ/ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَكِيمًا، لِأَنَّ إِيصَالَ النِّعْمَةِ إِلَى الْغَيْرِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَبْنِيًّا عَلَى دَاعِيَةِ الْحِكْمَةِ لَكَانَ ذَلِكَ تَبْذِيرًا لَا كَرَمًا. أَمَّا إِذَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى دَاعِيَةِ الْحِكْمَةِ فَحِينَئِذٍ يُسَمَّى كَرَمًا، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: كَوْنُهُ كَرِيمًا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْحَشْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ، أَمَّا كَوْنُهُ حَكِيمًا فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْحَشْرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي، فَكَانَ ذِكْرُ الْكَرِيمِ هَاهُنَا أَوْلَى مِنْ ذِكْرِ الْحَكِيمِ، هَذَا هُوَ تَمَامُ الْكَلَامِ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ، وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ. أَمَّا قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْكَافِرُ، لِقَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ [الإنفطار: ٩] وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ الْأَسَدِ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ أُسَيْدٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ ضَرَبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَاقِبْهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْعُصَاةِ وَهُوَ الْأَقْرَبُ، لِأَنَّ خُصُوصَ السَّبَبِ لَا يَقْدَحُ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ. أَمَّا قَوْلُهُ: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ فَالْمُرَادُ الَّذِي خَدَعَكَ وَسَوَّلَ لَكَ الْبَاطِلَ حَتَّى تَرَكْتَ الْوَاجِبَاتِ وَأَتَيْتَ بِالْمُحَرَّمَاتِ، وَالْمَعْنَى مَا الَّذِي أَمَّنَكَ مِنْ عِقَابِهِ، يُقَالُ:

غَرَّهُ بِفُلَانٍ إِذَا أَمَّنَهُ الْمَحْذُورَ مِنْ جِهَتِهِ مَعَ أنه غير مأمون، وهو كقوله: لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لُقْمَانَ: ٣٣] هَذَا إِذَا حَمَلْنَا قوله: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ عَلَى جَمِيعِ الْعُصَاةِ، وَأَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْكَافِرِ، فَالْمَعْنَى مَا الَّذِي دَعَاكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>