النِّعَمِ، فَلَوْ قَالَ: بِلَفْظِ الرَّبِّ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ، وَفِي لَفْظِ الرَّبِّ عَادَةٌ جَارِيَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ الْإِضَافَةِ. فالعبد يقول: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا، وَرَبِّ اغْفِرْ لِي، وَاللَّهُ تعالى يقول: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ [الدخان: ٨] ورَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: ٢] وَحَيْثُ تَرَكَ الْإِضَافَةَ ذَكَرَهُ مَعَ صِفَةٍ أُخْرَى مِنْ أَوْصَافِ اللَّفْظِ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سَبَأٍ: ١٥] وَقَالَ تَعَالَى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: ٥٨] وَلَفْظُ الرَّبِّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى التَّرْبِيَةِ، يُقَالُ: رَبَّهُ يُرَبِّهِ رَبًّا مِثْلَ رَبَّاهُ يُرَبِّيهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا مِنَ الرَّبِّ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الرَّابِّ كَالطِّبِّ لِلطَّبِيبِ، وَالسَّمْعِ لِلْحَاسَّةِ، وَالْبُخْلِ لِلْبَخِيلِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ لَكِنْ مِنْ بَابِ فَعَلَ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ كَأَنَّهُ فَعَلَ مِنْ بَابِ فَعَلَ يَفْعَلُ أَيْ فَعَلَ الَّذِي لِلْغَرِيزِيِّ كَمَا يُقَالُ فِيمَا إِذَا قُلْنَا: فُلَانٌ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، فَكَانَ وَصْفًا لَهُ مِنْ بَابِ فَعَلَ اللَّازِمِ لِيَخْرُجَ عَنِ التَّعَدِّي.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْجَلالِ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ صِفَةٍ مِنْ بَابِ النَّفْيِ، كَقَوْلِنَا: اللَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جَوْهَرٍ وَلَا عَرَضٍ، وَلِهَذَا يُقَالُ: جَلَّ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا، وَجَلَّ أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْجَلَالَ هُوَ بِمَعْنَى الْعَظَمَةِ غَيْرَ أَنَّ الْعَظَمَةَ أَصْلُهَا فِي الْقُوَّةِ، وَالْجَلَالُ فِي الْفِعْلِ، فَهُوَ عَظِيمٌ لَا يَسَعُهُ عَقْلٌ ضَعِيفٌ فَجَلَّ أَنْ يَسَعَهُ كُلُّ فَرْضٍ مَعْقُولٍ: وَالْإِكْرامِ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ صِفَةٍ هِيَ مِنْ بَابِ الْإِثْبَاتِ، كَقَوْلِنَا: حَيٌّ قَادِرٌ عَالِمٌ، وَأَمَّا السَّمِيعُ وَالْبَصِيرُ فَإِنَّهُمَا مِنْ بَابِ الْإِثْبَاتِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ بَابِ النَّفْيِ، وَصِفَاتُ بَابِ النَّفْيِ قَبْلَ صِفَاتِ بَابِ الْإِثْبَاتِ عِنْدَنَا، لِأَنَّا أَوَّلًا نَجِدُ الدَّلِيلَ وَهُوَ الْعَالَمُ فَنَقُولُ: الْعَالَمُ مُحْتَاجٌ إِلَى شَيْءٍ وَذَلِكَ الشَّيْءُ لَيْسَ مِثْلَ الْعَالَمِ فَلَيْسَ بِمُحْدَثٍ وَلَا مُحْتَاجٍ، وَلَا مُمْكِنٍ، ثُمَّ نُثْبِتُ لَهُ الْقُدْرَةَ وَالْعِلْمَ وَغَيْرَهُمَا، وَمِنْ هُنَا قَالَ تَعَالَى لِعِبَادِهِ:
لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [الصَّافَّاتِ: ٣٥]
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»
وَنَفْيُ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ، نَفْيُ صِفَاتِ غَيْرِ اللَّهِ عَنِ اللَّهِ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: الْجِسْمُ لَيْسَ بِإِلَهٍ لَزِمَ مِنْهُ قَوْلُكَ: اللَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَ (الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) وَصْفَانِ مُرَتَّبَانِ عَلَى أَمْرَيْنِ سَابِقَيْنِ، فَالْجَلَالُ مُرَتَّبٌ عَلَى فَنَاءِ الْغَيْرِ وَالْإِكْرَامُ عَلَى بَقَائِهِ تَعَالَى، فَيَبْقَى الْفَرْدُ وَقَدْ عَزَّ أَنْ يُحَدَّ أَمْرُهُ بِفَنَاءِ مَنْ عَدَاهُ وَمَا عَدَاهُ، وَيَبْقَى وَهُوَ مُكْرِمٌ قَادِرٌ عَالِمٌ فَيُوجِدُ بَعْدَ فَنَائِهِمْ من يريد، وقرئ: ذُو الْجَلالِ، وذِي الْجَلالِ. وَسَنَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي تَفْسِيرِ آخر السورة إن شاء الله تعالى. / ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠)
وَفِيهِ وجهان أحدهما: أنه حال تقديره: يبقى وَجْهُ رَبِّكَ مَسْئُولًا وَهَذَا مَنْقُولٌ مَعْقُولٌ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى التَّنَاقُضِ لِأَنَّهُ لما قال: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: ٢٧] كَانَ إِشَارَةً إِلَى بَقَائِهِ بَعْدَ فَنَاءِ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ، فَكَيْفَ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَسْئُولًا لِمَنْ فِي الْأَرْضِ؟ فَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى [الْأُمُورِ] الْجَارِيَةِ [فِي يَوْمِنَا] فَلَا إِشْكَالَ فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَأَمَّا عَلَى الصَّحِيحِ فَنَقُولُ عَنْهُ أَجْوِبَةٌ أَحَدُهَا: لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ فَانٍ نَظَرًا إِلَيْهِ وَلَا يَبْقَى إِلَّا بِإِبْقَاءِ اللَّهِ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مَسْئُولًا ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ مَسْئُولًا مَعْنًى لَا حَقِيقَةً، لِأَنَّ الْكُلَّ إِذَا فَنَوْا وَلَمْ يَكُنْ وُجُودٌ إِلَّا بِاللَّهِ، فَكَأَنَّ الْقَوْمَ فَرَضُوا سَائِلِينَ بِلِسَانِ الْحَالِ ثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَيَبْقى لِلِاسْتِمْرَارِ فَيَبْقَى وَيُعِيدُ مَنْ كَانَ فِي الْأَرْضِ وَيَكُونُ مَسْئُولًا وَالثَّانِي: أَنَّهُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَهُوَ أَظْهَرُ وَفِيهِ مسائل:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute