للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[[سورة النساء (٤) : آية ٩]]

وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩)

وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ هِيَ صِلَةٌ لِقَوْلِهِ: الَّذِينَ وَالْمَعْنَى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ مِنْ صِفَتِهِمْ أَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ وَأَمَّا الَّذِي يُخْشَى عَلَيْهِ فَغَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَسَنَذْكُرُ وُجُوهَ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ يُوجِبُ الِاحْتِيَاطَ لِلذُّرِّيَّةِ الضِّعَافِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا خِطَابٌ مَعَ الَّذِينَ يَجْلِسُونَ عِنْدَ الْمَرِيضِ فَيَقُولُونَ: إِنَّ ذَرِّيَّتَكَ لَا يُغْنُونَ عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، فَأَوْصِ بِمَالِكَ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَلَا يَزَالُونَ يَأْمُرُونَهُ بِالْوَصِيَّةِ إِلَى الْأَجَانِبِ إِلَى أَنْ لَا يَبْقَى مِنْ مَالِهِ لِلْوَرَثَةِ شَيْءٌ أَصْلًا، فَقِيلَ لَهُمْ: كَمَا أَنَّكُمْ تَكْرَهُونَ بَقَاءَ أَوْلَادِكُمْ فِي الضَّعْفِ وَالْجُوعِ مِنْ غَيْرِ مَالٍ، فَاخْشَوُا اللَّهَ وَلَا تَحْمِلُوا الْمَرِيضَ عَلَى أَنْ يَحْرِمَ أَوْلَادَهُ الضُّعَفَاءَ مِنْ مَالِهِ. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّكَ لَا تَرْضَى مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ لِنَفْسِكَ، فَلَا تَرْضَهُ لِأَخِيكَ الْمُسْلِمِ.

عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: سَأَلْتُ مِقْسَمًا عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي يَحْضُرُهُ الْمَوْتُ وَيُرِيدُ الْوَصِيَّةَ لِلْأَجَانِبِ، فَيَقُولُ لَهُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ: اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَى وَلَدِكَ مَالَكَ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الإنسان يجب أَنْ يُوصَى لَهُ، فَفِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى نَهْيِ الْحَاضِرِينَ/ عَنِ التَّرْغِيبِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي مَحْمُولَةٌ عَلَى نَهْيِ الحاضرين عن النهي عن الوصية، والأولى أَوْلَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً أَشْبَهُ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَأَقْرَبُ إِلَيْهِ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ خِطَابًا لِمَنْ قَرُبَ أَجَلُهُ، وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ نَهْيَهُ عَنْ تَكْثِيرِ الْوَصِيَّةِ لِئَلَّا تَبْقَى وَرَثَتُهُ ضَائِعِينَ جَائِعِينَ بَعْدَ مَوْتِهِ، ثُمَّ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ قَبْلَ تَقْدِيرِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ، كَانَ الْمُرَادُ مِنْهَا أَنْ لَا يَجْعَلَ التَّرِكَةَ مُسْتَغْرَقَةً بِالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ بَعْدَ تَقْدِيرِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ، كَانَ الْمُرَادُ مِنْهَا أَنْ يُوصِيَ أَيْضًا بِالثُّلُثِ، بَلْ يَنْقُصُ إِذَا خَافَ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ وَصَّوْا بِالْقَلِيلِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: الْخُمُسُ أَفْضَلُ مِنَ الرُّبُعِ، وَالرُّبُعُ أَفْضَلُ مِنَ الثُّلُثِ، وَخَبَرُ سَعْدٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ لَأَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» .

وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا أَمْرٌ لِأَوْلِيَاءِ الْيَتِيمِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلْيَخْشَ مَنْ يَخَافُ عَلَى وَلَدِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنْ يَضِيعَ مَالُ الْيَتِيمِ الضَّعِيفِ الَّذِي هُوَ ذُرِّيَّةُ غَيْرِهِ إِذَا كَانَ فِي حِجْرِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَبْعَثَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى حِفْظِ مَالِهِ، وَأَنْ يُتْرَكَ نَفْسَهُ فِي حِفْظِهِ وَالِاحْتِيَاطُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا يُحِبُّهُ مِنْ غَيْرِهِ فِي ذُرِّيَّتِهِ لَوْ خَلَفَهُمْ وَخَلَفَ لَهُمْ مَالًا. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا أَلْيَقُ بِمَا تَقَدَّمَ وَتَأَخَّرَ مِنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي بَابِ الْأَيْتَامِ، فَجَعَلَ تَعَالَى آخِرَ مَا دَعَاهُمْ إِلَى حِفْظِ مَالِ الْيَتِيمِ أَنْ يُنَبِّهَهُمْ عَلَى حَالِ أَنْفُسِهِمْ وَذُرِّيَّتِهِمْ إِذَا تَصَوَّرُوهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ أَقْوَى الدَّوَاعِي وَالْبَوَاعِثِ فِي هَذَا المقصود.