اسْتِبْعَادَ فِيهِ وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَالضُّحَى ذُكُورُ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَاللَّيْلِ إِنَاثُهُمْ، وَيُحْتَمَلُ الضُّحَى رِسَالَتُهُ وَاللَّيْلُ زَمَانُ احْتِبَاسِ الْوَحْيِ، لِأَنَّ فِي حَالِ النُّزُولِ حَصَلَ الِاسْتِئْنَاسُ وَفِي زَمَنِ الِاحْتِبَاسِ حَصَلَ الِاسْتِيحَاشُ، وَيُحْتَمَلُ وَالضُّحَى نُورُ عِلْمِهِ الَّذِي بِهِ يُعْرَفُ الْمَسْتُورُ مِنَ الْغُيُوبِ: وَاللَّيْلِ عفوه الذي به يستر جميع الغيوب. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الضُّحَى إِقْبَالُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنْ كَانَ غَرِيبًا وَاللَّيْلِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ سَيَعُودُ غَرِيبًا، وَيُحْتَمَلُ وَالضُّحَى كَمَالُ الْعَقْلِ، وَاللَّيْلِ حَالُ الْمَوْتِ، وَيُحْتَمَلُ أُقْسِمُ بِعَلَانِيَتِكَ الَّتِي لَا يَرَى عَلَيْهَا الْخَلْقُ عَيْبًا، وَبِسِرِّكَ الَّذِي لَا يَعْلَمُ عليه عالم الغيب عيبا.
[[سورة الضحى (٩٣) : آية ٣]]
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْمُبَرِّدُ: وَدَّعَكَ مِنَ التَّوْدِيعِ كَمَا يُودَّعُ الْمُفَارِقُ، وَقُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ مَا تَرَكَكَ، وَالتَّوْدِيعُ مُبَالَغَةٌ فِي الْوَدَاعِ، لِأَنَّ مَنْ وَدَّعَكَ مُفَارِقًا فَقَدْ بَالَغَ فِي تَرْكِكَ وَالْقِلَى الْبُغْضُ. يُقَالُ: قَلَاهُ يَقْلِيهِ قِلًى وَمَقْلِيَةً إِذَا أَبْغَضَهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ وَمَا قَلَاكَ، وَفِي حَذْفِ الْكَافِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: حُذِفَتِ الْكَافُ اكْتِفَاءً بِالْكَافِ الْأُولَى فِي وَدَّعَكَ، وَلِأَنَّ رؤس الْآيَاتِ بِالْيَاءِ، فَأَوْجَبَ اتِّفَاقُ الْفَوَاصِلِ حَذْفَ الْكَافِ وَثَانِيهَا: فَائِدَةُ الْإِطْلَاقِ أَنَّهُ مَا قَلَاكَ وَلَا [قلا] أحد مِنْ أَصْحَابِكَ وَلَا أَحَدًا مِمَّنْ أَحَبَّكَ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ، تَقْرِيرًا لِقَوْلِهِ: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَبْطَأَ جِبْرِيلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: قَدْ قَلَاهُ اللَّهُ وَوَدَّعَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ،
وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَبْطَأَ عَلَيْهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى خَدِيجَةَ، فَقَالَتْ: لَعَلَّ رَبَّكَ نَسِيَكَ أَوْ قَلَاكَ،
وَقِيلَ: إِنَّ أُمَّ جَمِيلٍ امْرَأَةَ أَبِي لَهَبٍ قَالَتْ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ مَا أَرَى شَيْطَانَكَ إِلَّا قَدْ تَرَكَكَ،
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: أَبْطَأَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ: «إِنَّ رَبِّي وَدَّعَنِي وَقَلَانِي، يَشْكُو إِلَيْهَا، فَقَالَتْ:
كَلَّا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا ابْتَدَأَكَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ إِلَّا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُتِمَّهَا لَكَ» فَنَزَلَ: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى
وَطَعَنَ الْأُصُولِيُّونَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَدَّعَهُ وَقَلَاهُ، بَلْ يَعْلَمُ أَنَّ عَزْلَ النَّبِيِّ عَنِ النُّبُوَّةِ غَيْرُ جَائِزٍ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَعْلَمُ أَنَّ نُزُولَ الْوَحْيِ يَكُونُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَرُبَّمَا كَانَ الصَّلَاحُ تَأْخِيرَهُ، وَرُبَّمَا كَانَ خِلَافَ ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا/ الْكَلَامَ غَيْرُ لَائِقٍ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ثُمَّ إِنْ صَحَّ ذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَقْصُودُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُجَرِّبَهَا لِيَعْرِفَ قَدْرَ عِلْمِهَا، أَوْ لِيَعْرِفَ النَّاسُ قَدْرَ عِلْمِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مُدَّةِ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ، فَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: اثْنَا عَشَرَ يَوْمًا، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ احْتِبَاسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
فَذَكَرَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّوحِ وَذِي الْقَرْنَيْنِ وَأَصْحَابِ الْكَهْفِ، فَقَالَ: «سَأُخْبِرُكُمْ غَدًا وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» فَاحْتَبَسَ عَنْهُ الْوَحْيُ،
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: السَّبَبُ فِيهِ كَوْنُ جَرْوٍ فِي بَيْتِهِ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، فَلَمَّا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَاتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَقَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ» وَقَالَ جُنْدُبُ بْنُ سُفْيَانَ: رُمِيَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ بِحَجَرٍ فِي إِصْبَعِهِ، فَقَالَ: