الْقَطْعِ بِعَدَمِ الْخُلُودِ، لِأَنَّهُ لَمَّا آمَنَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَصِلَ ثَوَابُ الْإِيمَانِ إِلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إِلَّا بِأَنْ يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ.
ثُمَّ قَالَ: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا أَنَّهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، فَكَانَ ذَلِكَ تَكْرِيرًا.
وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى إِيصَالِ الْعَذَابِ إِلَى الْفُسَّاقِ وَالْكُفَّارِ، فَكَانَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ يَلِيقُ بِكَرَمِ أَكْرَمِ الْأَكْرَمِينَ أَنْ يُعَذِّبَ عَبِيدَهُ فَأَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي تِلْكَ الْوَرْطَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَكَّنَهُ وَأَزَاحَ عُذْرَهُ، وَسَهَّلَ عَلَيْهِ طَرِيقَ الِاسْتِدْلَالِ، وَأَمْهَلَهُ فَمَنْ قَصَّرَ فَهُوَ الَّذِي أَسَاءَ إِلَى نَفْسِهِ، وَهَذَا الْجَوَابُ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا عَلَى أُصُولِ أَصْحَابِنَا فَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَالِكُ الْخَلْقِ، وَالْمَالِكُ إِذَا تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا، فَكَانَ قَوْلُهُ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ بَعْدَ ذِكْرِ الوعيد إشارة إلى ما ذكرناه.
[[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٢]]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢)
الْحُكْمُ الثَّالِثُ: مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ آيَةُ الْمُدَايَنَةِ.
[في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا الْحُكْمِ نَوْعَيْنِ مِنَ الْحُكْمِ أَحَدُهُمَا: الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ يُوجِبُ تَنْقِيصَ الْمَالِ وَالثَّانِي: تَرْكُ الرِّبَا، وَهُوَ أَيْضًا سَبَبٌ لِتَنْقِيصِ الْمَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ ذَيْنِكَ الْحُكْمَيْنِ بِالتَّهْدِيدِ الْعَظِيمِ، فَقَالَ: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ وَالتَّقْوَى تَسُدُّ عَلَى الْإِنْسَانِ أَكْثَرَ أَبْوَابِ الْمَكَاسِبِ وَالْمَنَافِعِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِأَنْ نَدَبَهُ إِلَى كَيْفِيَّةِ حِفْظِ الْمَالِ الْحَلَالِ وَصَوْنِهِ عَنِ الْفَسَادِ وَالْبَوَارِ فَإِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَلَى تَرْكِ الرِّبَا، وَعَلَى مُلَازَمَةِ التَّقْوَى لَا يَتِمُّ وَلَا يَكْمُلُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الْمَالِ، ثم إنه تعال لِأَجْلِ هَذِهِ الدَّقِيقَةِ بَالَغَ فِي الْوَصِيَّةِ بِحِفْظِ الْمَالِ الْحَلَالِ عَنْ وُجُوهِ التَّوَى وَالتَّلَفِ، وَقَدْ وَرَدَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً [النساء: ٥]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute