للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَطَائِنُهَا مِنَ الْإِسْتَبْرَقِ تَكُونُ ظَهَائِرُهَا خَيْرًا مِنْهَا، وَكَأَنَّهُ شَيْءٌ لَا يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ مِنْ سُنْدُسٍ وَهُوَ الدِّيبَاجُ الرَّقِيقُ النَّاعِمُ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ مَعْنَوِيٌّ وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا يُظْهِرُونَ الزِّينَةَ وَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ أَنْ يَجْعَلُوا الْبَطَائِنَ كَالظَّهَائِرِ، لِأَنَّ غَرَضَهُمْ إِظْهَارُ الزِّينَةِ وَالْبَطَائِنُ لَا تَظْهَرُ، وَإِذَا انْتَفَى السَّبَبُ انْتَفَى الْمُسَبَّبُ، فَلَمَّا لَمْ يَحْصُلْ فِي جَعْلِ الْبَطَائِنِ مِنَ الدِّيبَاجِ مَقْصُودُهُمْ وَهُوَ الْإِظْهَارُ تَرَكُوهُ، وَفِي الْآخِرَةِ الْأَمْرُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِكْرَامِ وَالتَّنْعِيمِ فَتَكُونُ الْبَطَائِنُ كَالظَّهَائِرِ فَذَكَرَ الْبَطَائِنَ.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مُخَالَفَتِهَا لِجَنَّةِ دَارِ الدُّنْيَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الثَّمَرَةَ فِي الدُّنْيَا عَلَى رُءُوسِ الشَّجَرَةِ وَالْإِنْسَانُ عِنْدَ الِاتِّكَاءِ يَبْعُدُ عَنْ رُءُوسِهَا وَفِي الْآخِرَةِ هُوَ مُتَّكِئٌ وَالثَّمَرَةُ تَنْزِلُ إِلَيْهِ ثَانِيهَا: فِي الدُّنْيَا مَنْ قَرُبَ مِنْ ثَمَرَةِ شَجَرَةٍ بَعُدَ عَنِ الْأُخْرَى وَفِي الْآخِرَةِ كُلُّهَا دَانٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَمَكَانٍ وَاحِدٍ، وَفِي الْآخِرَةِ الْمُسْتَقِرُّ فِي جَنَّةٍ عِنْدَهُ جَنَّةٌ أُخْرَى ثَالِثُهَا: أَنَّ الْعَجَائِبَ كُلَّهَا مِنْ خَوَاصِّ الْجَنَّةِ فَكَانَ أَشْجَارُهَا دَائِرَةً عَلَيْهِمْ سَاتِرَةً إِلَيْهِمْ وَهُمْ سَاكِنُونَ عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا وَجَنَّاتِهَا وَفِي الدُّنْيَا الْإِنْسَانُ مُتَحَرِّكٌ وَمَطْلُوبُهُ سَاكِنٌ، وَفِيهِ الْحَقِيقَةُ وَهِيَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكْسَلْ وَلَمْ يَتَقَاعَدْ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسَعَى فِي الدُّنْيَا فِي الْخَيْرَاتِ انْتَهَى أَمْرُهُ إِلَى سُكُونٍ لَا يُحْوِجُهُ شَيْءٌ إِلَى حَرَكَةٍ، فَأَهْلُ الْجَنَّةِ إِنْ تَحَرَّكُوا تَحَرَّكُوا لَا لِحَاجَةٍ وَطَلَبٍ، وَإِنْ سَكَنُوا سَكَنُوا لَا لِاسْتِرَاحَةٍ بَعْدَ التَّعَبِ، ثُمَّ إِنَّ الْوَلِيَّ قَدْ تَصِيرُ لَهُ الدُّنْيَا أُنْمُوذَجًا مِنَ الْجَنَّةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ سَاكِنًا فِي بَيْتِهِ وَيَأْتِيهِ الرِّزْقُ مُتَحَرِّكًا إِلَيْهِ دَائِرًا حَوَالَيْهِ، يَدُلُّكَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [آلِ عِمْرَانَ: ٣٧] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْجَنَّتَانِ إِنْ كَانَتَا جِسْمِيَّتَيْنِ فَهُوَ أَبَدًا يَكُونُ بَيْنَهُمَا وَهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ هُوَ يَتَنَاوَلُ ثِمَارَهُمَا وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا رُوحِيَّةً وَالْأُخْرَى جِسْمِيَّةً فَلِكُلِّ واحد منهما فواكه وفرش تليق بها. ثم قال تعالى:

[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]

فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧)

وَفِيهِ مسائل:

الْأَوَّلُ: فِي التَّرْتِيبِ وَإِنَّهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ لِأَنَّهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بَيَّنَ الْمَسْكَنَ وَهُوَ الْجَنَّةُ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا يَتَنَزَّهُ بِهِ فَإِنَّ مَنْ يَدْخُلُ بُسْتَانًا يَتَفَرَّجُ أَوَّلًا فَقَالَ: ذَواتا أَفْنانٍ ... فِيهِما عَيْنانِ [الرحمن: ٤٨- ٥٠] ثُمَّ ذَكَرَ مَا يُتَنَاوَلُ مِنَ الْمَأْكُولِ فَقَالَ: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ [الرحمن: ٥٢] ثُمَّ ذَكَرَ مَوْضِعَ الرَّاحَةِ بَعْدَ التَّنَاوُلِ وَهُوَ الْفِرَاشُ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَكُونُ فِي الْفِرَاشِ مَعَهُ.

الثَّانِي: فِيهِنَّ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَاذَا؟ نَقُولُ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: إِلَى الْآلَاءِ وَالنِّعَمِ أَيْ قَاصِرَاتِ الطَّرْفِ ثَانِيهَا: إِلَى الْفِرَاشِ أَيْ فِي الْفُرُشِ قَاصِرَاتٌ وَهُمَا ضَعِيفَانِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ اخْتِصَاصَ الْقَاصِرَاتِ بِكَوْنِهِنَّ فِي الْآلَاءِ مَعَ أَنَّ الْجَنَّتَيْنِ فِي الْآلَاءِ وَالْعَيْنَيْنِ فِيهِمَا وَالْفَوَاكِهُ كَذَلِكَ لَا يَبْقَى لَهُ فَائِدَةٌ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْفُرُشَ جَعَلَهَا ظَرْفَهُمْ حَيْثُ قَالَ: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ [الرَّحْمَنِ: ٥٤] وَأَعَادَ الضَّمِيرَ إِلَيْهَا بقوله: بَطائِنُها [الرحمن: ٥٤] وَلَمْ يَقُلْ: بَطَائِنُهُنَّ، فَقَوْلُهُ فِيهِنَّ يَكُونُ تَفْسِيرًا لِلضَّمِيرِ فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ فَائِدَةٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذَا مَرَّةً أُخْرَى: فِيهِنَّ خَيْراتٌ [الرحمن: ٧٠] وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ذِكْرُ الْفُرُشِ فَالْأَصَحُّ إِذَنْ هُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلى الجنتين، وجمع الضمير هاهنا وثنى في قوله: فِيهِما عَيْنانِ [الرحمن: ٥٠]

<<  <  ج: ص:  >  >>