مَقامَ رَبِّهِ
[الرحمن: ٤٦] وَالْعَامِلُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّامُ الْجَارَّةُ تَقْدِيرُهُ لَهُمْ فِي حَالِ الِاتِّكَاءِ جَنَّتَانِ/ وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى الْمَدْحِ، وَإِنَّمَا حَمْلُهُ عَلَى هَذَا إِشْكَالٌ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ حَالٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَنَّةَ لَيْسَتْ لَهُمْ حَالَ الِاتِّكَاءِ بَلْ هِيَ لَهُمْ فِي كُلِّ حَالٍ فَهِيَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ حَالٌ وَذُو الْحَالِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْفَاكِهَةُ. لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ [الرحمن: ٥٢] يَدُلُّ عَلَى مُتَفَكِّهِينَ بِهَا كَأَنَّهُ قَالَ: يَتَفَكَّهُ الْمُتَفَكِّهُونَ بِهَا، مُتَّكِئِينَ، وَهَذَا فِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَكْلَ إِنْ كَانَ ذَلِيلًا كَالْخَوَلِ وَالْخَدَمِ وَالْعَبِيدِ وَالْغِلْمَانِ، فَإِنَّهُ يَأْكُلُ قَائِمًا، وَإِنْ كَانَ عَزِيزًا فَإِنْ كَانَ يَأْكُلُ لِدَفْعِ الْجُوعِ يَأْكُلُ قَاعِدًا وَلَا يَأْكُلُ مُتَّكِئًا إِلَّا عَزِيزٌ مُتَفَكِّهٌ لَيْسَ عِنْدَهُ جُوعٌ يُقْعِدُهُ لِلْأَكْلِ، وَلَا هُنَالِكَ مَنْ يَحْسِمُهُ، فَالتَّفَكُّهُ مُنَاسِبٌ لِلِاتِّكَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْمَسَائِلِ النَّحْوِيَّةِ: عَلى فُرُشٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَيِّ فِعْلٍ هُوَ؟ إِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَا فِي مُتَّكِئِينَ، حَتَّى يَكُونَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَتَّكِئُونَ عَلَى فُرُشٍ كَمَا كَانَ يُقَالُ: فُلَانٌ اتَّكَأَ عَلَى عَصَاهُ أَوْ عَلَى فَخْذَيْهِ فَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْفِرَاشَ لَا يُتَّكَأُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِغَيْرِهِ فَمَاذَا هُوَ؟ نَقُولُ: مُتَعَلِّقٌ بِغَيْرِهِ تَقْدِيرُهُ يَتَفَكَّهُ الْكَائِنُونَ عَلَى فُرُشٍ مُتَّكِئِينَ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ مَا يَتَّكِئُونَ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اتِّكَاؤُهُمْ عَلَى الْفُرُشِ غَيْرَ أَنَّ الْأَظْهَرَ مَا ذَكَرْنَا لِيَكُونَ ذَلِكَ بَيَانًا لِمَا تَحْتَهُمْ وَهُمْ بِجَمِيعِ بَدَنِهِمْ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنْعَمُ وَأَكْرَمُ لَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الظَّاهِرُ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ فُرُشًا كَثِيرَةً لَا أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِرَاشًا فَلِكُلِّهِمْ فُرُشٌ عَلَيْهَا كَائِنُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ لُغَوِيَّةٌ: الْإِسْتَبْرَقُ هُوَ الدِّيبَاجُ الثَّخِينُ وَكَمَا أَنَّ الدِّيبَاجَ مُعَرَّبٌ بِسَبَبِ أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا مِنَ الْعَجَمِ، اسْتَعْمَلَ الِاسْمَ الْمُعْجَمَ فِيهِ غَيْرَ أَنَّهُمْ تَصَرَّفُوا فِيهِ تَصَرُّفًا وَهُوَ أَنَّ اسْمَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ ستبرك بِمَعْنَى ثَخِينٍ تَصْغِيرُ «ستبر» فَزَادُوا فِيهِ هَمْزَةً مُتَقَدِّمَةً عَلَيْهِ، وَبَدَّلُوا الْكَافَ بِالْقَافِ، أَمَّا الْهَمْزَةُ، فَلِأَنَّ حَرَكَاتِ أَوَائِلِ الكلمة في لسان العجم غير مبنية فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ فَصَارَتْ كَالسُّكُونِ، فَأَثْبَتُوا فِيهِ هَمْزَةً كَمَا أَثْبَتُوا هَمْزَةَ الْوَصْلِ عِنْدَ سُكُونِ أَوَّلِ الْكَلِمَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْبَعْضَ جَعَلُوهَا هَمْزَةَ وَصْلٍ وَقَالُوا: مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَالْأَكْثَرُونَ جَعَلُوهَا هَمْزَةَ قَطْعٍ لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلِمَةِ فِي الْأَصْلِ مُتَحَرِّكٌ لَكِنْ بِحَرَكَةٍ فَاسِدَةٍ فَأَتَوْا بِهَمْزَةٍ تُسْقِطُ عَنْهُمُ الْحَرَكَةَ الْفَاسِدَةَ وَتُمَكِّنُهُمْ مِنْ تَسْكِينِ الْأَوَّلِ وَعِنْدَ تَسَاوِي الْحَرَكَةِ، فَالْعَوْدُ إِلَى السُّكُونِ أَقْرَبُ، وَأَوَاخِرُ الْكَلِمَاتِ عِنْدَ الْوَقْفِ تُسَكَّنُ وَلَا تُبْدَلُ حَرَكَةٌ بِحَرَكَةٍ، وَأَمَّا الْقَافُ فَلِأَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا الْكَافَ لَاشْتَبَهَ ستبرك بِمَسْجِدِكَ وَدَارِكَ، فَأَسْقَطُوا مِنْهُ الْكَافَ الَّتِي هِيَ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ فِي آخِرِ الْكَلِمِ لِلْخِطَابِ وَأَبْدَلُوهَا قَافًا ثُمَّ عَلَيْهِ سُؤَالٌ مَشْهُورٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، وَهَذَا لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ، وَالْجَوَابُ الْحَقُّ أَنَّ اللَّفْظَةَ فِي أَصْلِهَا لَمْ تَكُنْ بَيْنَ الْعَرَبِ بِلُغَةٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ أُنْزِلَ بِلُغَةٍ هِيَ فِي أَصْلِ وَضْعِهَا عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ بِلِسَانٍ لَا يَخْفَى مَعْنَاهُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ وَلَمْ يَسْتَعْمِلْ فِيهِ لُغَةً لَمْ تَتَكَلَّمُ الْعَرَبُ بِهَا، فَيَصْعُبُ عَلَيْهِمْ مِثْلُهُ لِعَدَمِ مُطَاوَعَةِ لِسَانِهِمُ التَّكَلُّمَ بِهَا فَعَجْزُهُمْ عَنْ مِثْلِهِ لَيْسَ إِلَّا لِمُعْجِزٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَعْنَوِيَّةٌ الِاتِّكَاءُ مِنَ الْهَيْئَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْجِسْمِ وَفَرَاغِ الْقَلْبِ، فَالْمُتَّكِئُ تَكُونُ أُمُورُ جِسْمِهِ عَلَى مَا يَنْبَغِي وَأَحْوَالُ قَلْبِهِ عَلَى مَا يَنْبَغِي، لِأَنَّ الْعَلِيلَ يَضْطَجِعُ وَلَا يَسْتَلْقِي أَوْ يَسْتَنِدُ إِلَى شَيْءٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لِلِاسْتِرَاحَةِ، وَأَمَّا الِاتِّكَاءُ بِحَيْثُ يَضَعُ كَفَّهُ تَحْتَ رَأْسِهِ وَمِرْفَقَهُ عَلَى الْأَرْضِ وَيُجَافِي جَنْبَيْهِ عَنِ الْأَرْضِ فَذَاكَ أَمْرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَشْغُولُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ شَيْءٍ فَتَحَرُّكُهُ تَحَرُّكُ مُسْتَوْفِزٍ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ قَوْلُهُ: بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ شَرَفِهَا فَإِنَّ مَا تَكُونُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute