للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَوْتِ، فَإِنَّ حَالَ الْمُؤْمِنِ مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ [النمل: ٣٢] وَحَالُ الْكَافِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النَّحْلِ: ٢٨] وَأَمَّا فِي الْقِيَامَةِ فَقَالَ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عَبَسَ: ٣٨- ٤١] فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى بَيَانِ وُقُوعِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِنْكَارُ أَنْ يَسْتَوُوا فِي الْمَمَاتِ كَمَا اسْتَوَوْا فِي الْحَيَاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ قَدْ يَسْتَوِي مَحْيَاهُمْ فِي الصِّحَّةِ وَالرِّزْقِ وَالْكِفَايَةِ بَلْ قَدْ يَكُونُ الْكَافِرُ أَرْجَحَ حَالًا مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَمَاتِ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي التَّأْوِيلِ أَنَّ قَوْلَهُ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ

مُسْتَأْنَفٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَحْيَا الْمُسِيئِينَ وَمَمَاتَهُمْ سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ مَحْيَا الْمُحْسِنِينَ وَمَمَاتُهُمْ، أَيْ كُلٌّ يَمُوتُ عَلَى حَسَبِ مَا عَاشَ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِإِنْكَارِ تِلْكَ التَّسْوِيَةِ فَقَالَ:

ساءَ مَا يَحْكُمُونَ

وهو ظاهر.

[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٢٢ الى ٢٦]

وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ مَا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢٦)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَفْتَى «١» بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُسَاوِي الْكَافِرَ فِي دَرَجَاتِ السَّعَادَاتِ، أَتْبَعَهُ بِالدَّلَالَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْفَتْوَى، فَقَالَ: وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلَوْ لَمْ يُوجَدِ الْبَحْثُ لَمَا كَانَ ذَلِكَ بِالْحَقِّ بَلْ كَانَ بِالْبَاطِلِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الظَّالِمَ وَسَلَّطَهُ عَلَى الْمَظْلُومِ الضَّعِيفِ، ثُمَّ لَا يَنْتَقِمُ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ كَانَ ظَالِمًا، وَلَوْ كان ظالما لبطل أنه خلق السموات وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَتَمَامُ تَقْرِيرِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ مَذْكُورٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ، قَالَ الْقَاضِي هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي مَقْدُورِ اللَّهِ مَا لَوْ حَصَلَ لَكَانَ ظُلْمًا، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْمُجْبِرَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَوْ فَعَلَ كُلَّ شَيْءٍ أَرَادَهُ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الظُّلْمِ، وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ فِعْلُ مَا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ لَكَانَ ظُلْمًا كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ فِعْلُ مَا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ لَكَانَ ابْتِلَاءً وَاخْتِبَارًا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِتُجْزى فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ بِالْحَقِّ فَيَكُونُ التقدير وخلق الله السموات وَالْأَرْضَ لِأَجْلِ إِظْهَارِ الْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ، الثَّانِي:

أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ عَلَى مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وخلق الله السموات وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ لِيَدُلَّ بِهِمَا عَلَى قُدْرَتِهِ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ خَلْقِ هَذَا الْعِلْمِ إِظْهَارُ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا حَصَلَ الْبَعْثُ وَالْقِيَامَةُ وَحَصَلَ التَّفَاوُتُ فِي الدَّرَجَاتِ وَالدَّرَكَاتِ بَيْنَ الْمُحِقِّينَ وَبَيْنَ الْمُبْطِلِينَ، ثُمَّ عَادَ تَعَالَى إِلَى شَرْحِ أَحْوَالِ الكفار وقبائح طوائفهم، فَقَالَ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ يَعْنِي تَرَكُوا مُتَابَعَةَ الْهُدَى وَأَقْبَلُوا عَلَى مُتَابَعَةِ الْهَوَى فَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْهَوَى كَمَا يَعْبُدُ الرَّجُلُ إِلَهَهُ، وَقُرِئَ آلِهَتَهُ هَوَاهُ كُلَّمَا مَالَ طَبْعُهُ إِلَى شيء


(١) التعبير بلفظ «أفتى» غير مناسب في حق الله تعالى وحقه أن يعبر به «قضى» أو «قدر» رعاية لمزيد الأدب.

<<  <  ج: ص:  >  >>