للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَتُطِيعُهُ لِأَنْ كَانَ ذَا مَالٍ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ «١» عَنْ نَافِعٍ: إِنْ كَانَ بِالْكَسْرِ، وَالشَّرْطُ لِلْمُخَاطَبِ، أَيْ لَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ شَارِطًا يَسَارَهُ، لِأَنَّهُ إِذَا أَطَاعَ الْكَافِرَ لِغِنَاهُ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَطَ فِي الطَّاعَةِ الْغِنَى، وَنَظِيرُ صَرْفِ الشَّرْطِ إِلَى الْمُخَاطَبِ صَرْفُ التَّرَجِّي إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ [طه: ٤٤] .

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُ قَبَائِحَ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ قَالَ مُتَوَعِّدًا لَهُ:

[[سورة القلم (٦٨) : آية ١٦]]

سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦)

وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوَسْمُ أَثَرُ الْكَيَّةِ وَمَا يُشْبِهُهَا، يُقَالُ: وَسَمْتُهُ فَهُوَ مَوْسُومٌ بِسِمَةٍ يُعْرَفُ بِهَا إِمَّا كَيَّةٌ، وإما قطع في أذنه عَلَامَةً لَهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْخُرْطُومُ هاهنا الْأَنْفُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا اللَّفْظَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ، لِأَنَّ التَّعْبِيرَ عَنْ أَعْضَاءِ النَّاسِ بِالْأَسْمَاءِ الْمَوْضُوعَةِ، لِأَشْبَاهِ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ يَكُونُ اسْتِخْفَافًا، كَمَا يُعَبَّرُ عَنْ شِفَاهِ النَّاسِ بِالْمَشَافِرِ، وَعَنْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ بِالْأَظْلَافِ وَالْحَوَافِرِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْوَجْهُ أَكْرَمُ مَوْضِعٍ فِي الْجَسَدِ، وَالْأَنْفُ أَكْرَمُ مَوْضِعٍ مِنَ الْوَجْهِ لِارْتِفَاعِهِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ جَعَلُوهُ مَكَانَ الْعِزِّ وَالْحَمِيَّةِ، وَاشْتَقُّوا مِنْهُ الْأَنَفَةَ، وَقَالُوا: الْأَنَفُ فِي الْأَنْفِ وَحَمَى أَنْفَهُ، وَفُلَانٌ شَامِخُ الْعِرْنِينِ، وَقَالُوا فِي الذَّلِيلِ: جُدِعَ أَنْفُهُ، وَرَغِمَ أَنْفُهُ، فَعَبَّرَ بِالْوَسْمِ عَلَى الْخُرْطُومِ عَنْ غَايَةِ الْإِذْلَالِ وَالْإِهَانَةِ، لِأَنَّ السِّمَةَ عَلَى الْوَجْهِ شَيْنٌ، فَكَيْفَ عَلَى أَكْرَمِ مَوْضِعٍ مِنَ الْوَجْهِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا الْوَسْمُ يَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: فَفِيهِ وُجُوهٌ أَوَّلُهَا: وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يُسَوَّدُ وَجْهُهُ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ، وَالْخُرْطُومُ وَإِنْ كَانَ قَدْ خُصَّ بِالسِّمَةِ فَإِنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّ بَعْضَ الْوَجْهِ يُؤَدِّي عَنْ بَعْضٍ وَثَانِيهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى سَيَجْعَلُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ الْعَلَمَ الَّذِي يَعْرِفُ بِهِ أَهْلُ الْقِيَامَةِ، أَنَّهُ كَانَ غَالِيًا فِي عَدَاوَةِ الرَّسُولِ، وَفِي إِنْكَارِ الدِّينِ الْحَقِّ وَثَالِثُهَا: أَنَّ فِي الْآيَةِ احْتِمَالًا آخَرَ عِنْدِي، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ الْكَافِرَ إِنَّمَا بَالَغَ فِي عَدَاوَةِ الرَّسُولِ وَفِي الطَّعْنِ فِي الدِّينِ الْحَقِّ بِسَبَبِ الْأَنَفَةِ وَالْحَمِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ مَنْشَأُ هَذَا الْإِنْكَارِ هُوَ الْأَنَفَةُ وَالْحَمِيَّةُ كَانَ مَنْشَأُ عَذَابِ الْآخِرَةِ هُوَ هَذِهِ الْأَنَفَةُ وَالْحَمِيَّةُ، فَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الِاخْتِصَاصِ بِقَوْلِهِ: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْوَسْمَ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ سَنَخْطِمُهُ بِالسَّيْفِ فَنَجْعَلُ ذلك علامة باقية على أنفسه مَا عَاشَ.

وَرُوِيَ أَنَّهُ قَاتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ فَخُطِمَ بِالسَّيْفِ فِي الْقِتَالِ

وَثَانِيهَا: أَنَّ مَعْنَى هَذَا الْوَسْمِ أَنَّهُ يَصِيرُ مَشْهُورًا بِالذِّكْرِ الرَّدِيءِ وَالْوَصْفِ الْقَبِيحِ فِي الْعَالَمِ، وَالْمَعْنَى سَنُلْحِقُ بِهِ شَيْئًا لَا يُفَارِقُهُ وَنُبِينُ أَمْرَهُ بَيَانًا وَاضِحًا حَتَّى لَا يَخْفَى كَمَا لَا تَخْفَى السِّمَةُ عَلَى الْخَرَاطِيمِ، تَقُولُ الْعَرَبُ لِلرَّجُلِ الَّذِي تَسُبُّهُ فِي مَسَبَّةٍ قَبِيحَةٍ بَاقِيَةٍ فَاحِشَةٍ: قَدْ وَسَمَهُ مِيسَمَ سُوءٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَلْصَقَ بِهِ عَارًا لَا يُفَارِقُهُ كَمَا أَنَّ السِّمَةَ لَا تَنْمَحِي ولا تزول ألبتة، قال جرير:


(١) في الكشاف للزمخشري (الزبيري) ٤/ ١٤٣ ط. دار الفكر.

<<  <  ج: ص:  >  >>