للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْأَطْعِمَةِ الْمُمْرِضَةِ وَشُرُورُ الْمَاءِ وَالنَّارِ، فَإِنْ قِيلَ الْآلَامُ الْحَاصِلَةُ عَقِيبَ الْمَاءِ وَالنَّارِ وَلَدْغِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ حَاصِلَةٌ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً، عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ، أَوْ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ قُوًى خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْأَجْرَامِ، عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْحُكَمَاءِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَيَصِيرُ حَاصِلُ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ مِنَ اللَّهِ، فَمَا مَعْنَاهُ؟ قُلْنَا: وَأَيُّ بَأْسٍ بِذَلِكَ، وَلَقَدْ صَرَّحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ،

فَقَالَ: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ»

وَرَابِعُهَا: أَرَادَ بِهِ مَا خَلَقَ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ وَالْقَحْطِ وَأَنْوَاعِ الْمِحَنِ وَالْآفَاتِ، وَزَعَمَ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ فِعْلَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ شَرٌّ، قَالُوا: / وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ الَّذِي أَمَرَ بِالتَّعَوُّذِ مِنْهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَنَا أَنْ نَتَعَوَّذَ بِهِ، وَذَلِكَ مُتَنَاقِضٌ وَالثَّانِي: أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ كُلَّهَا حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ، وَذَلِكَ لَا يُجَوِّزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ شَرٌّ وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِعْلَ اللَّهِ لَوْ كَانَ شَرًّا لَوُصِفَ فَاعِلُهُ بِأَنَّهُ شِرِّيرٌ وَيَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي

قَوْلِهِ أَعُوذُ بِكَ مِنْكَ؟

وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ الْإِنْسَانَ لَمَّا تَأَلَّمَ بِهِ فَإِنَّهُ يُعَدُّ شَرًّا، فَوَرَدَ اللَّفْظُ عَلَى وَفْقِ قَوْلِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: ٤٠] وَقَوْلُهُ: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٩٤] وَعَنِ الثَّالِثِ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَوْقِيفِيَّةٌ لَا اصْطِلَاحِيَّةٌ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَسْمِيَةِ الْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ بِأَنَّهَا شُرُورٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً [الْمَعَارِجِ: ٢٠] وَقَوْلُهُ: وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ [فُصِّلَتْ: ٥١]

وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ طَوَارِقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ» .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: طَعَنَ بَعْضُ الْمُلْحِدَةِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا:

أَنَّ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ أَهُوَ وَاقِعٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرَهِ، أَوْ لَا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَلَا بِقَدَرِهِ؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَكَيْفَ أَمَرَ بِأَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا قَضَى اللَّهُ بِهِ وَقَدَّرَهُ فَهُوَ وَاقِعٌ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الشَّيْءُ الَّذِي قَضَيْتُ بِوُقُوعِهِ، وَهُوَ لَا بُدَّ وَاقِعٌ فَاسْتَعِذْ بِي مِنْهُ حَتَّى لَا أُوقِعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ فَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي مُلْكِ اللَّهِ وَمَلَكُوتِهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ إِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ فَلَا دَافِعَ لَهُ، فَلَا فَائِدَةَ في الاستعاذة وإن كان معلوم اللاوقوع، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الِاسْتِعَاذَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ إِنْ كَانَ مَصْلَحَةً فَكَيْفَ رَغِبَ الْمُكَلَّفُ فِي طَلَبِ دَفْعِهِ وَمَنْعِهِ، وَإِنْ كَانَ مَفْسَدَةً فَكَيْفَ خَلَقَهُ وَقَدَّرَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ، أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ: لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء: ٢٣] وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ.

[[سورة الفلق (١١٣) : آية ٣]]

وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣)

ذَكَرُوا فِي الْغَاسِقِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ الْغَاسِقَ هُوَ اللَّيْلُ إِذَا عَظُمَ ظَلَامُهُ مِنْ قَوْلِهِ: إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ [الإسراء: ٧٨] وَمِنْهُ غَسَقَتِ الْعَيْنُ إِذَا امْتَلَأَتْ دَمْعًا وَغَسَقَتِ الْجِرَاحَةُ إِذَا امْتَلَأَتْ دَمًا، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَأَبِي عُبَيْدَةِ، وَأَنْشَدَ ابْنُ قَيْسٍ:

إِنَّ هَذَا اللَّيْلَ قَدْ غَسَقَا ... وَاشْتَكَيْتُ الْهَمَّ وَالْأَرَقَا

وَقَالَ الزَّجَّاجُ الْغَاسِقُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْبَارِدُ، وَسُمِّيَ اللَّيْلُ غَاسِقًا لِأَنَّهُ أَبْرَدُ مِنَ النَّهَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ إِنَّهُ الزَّمْهَرِيرُ وَثَالِثُهَا: قَالَ قَوْمٌ: الْغَاسِقُ وَالْغَسَّاقُ هُوَ السَّائِلُ مِنْ قَوْلِهِمْ: غَسَقَتِ الْعَيْنُ تَغْسِقُ غَسْقًا إِذَا سَالَتْ بِالْمَاءِ، وَسُمِّيَ اللَّيْلُ غَاسِقًا لِانْصِبَابِ ظَلَامِهِ عَلَى الْأَرْضِ، أَمَّا الْوُقُوبُ فَهُوَ الدُّخُولُ فِي شَيْءٍ آخَرَ بِحَيْثُ يَغِيبُ عن العين،

<<  <  ج: ص:  >  >>