للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْمَفَاسِدِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ: الْمَفَاسِدُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالدِّينِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فنقول: أما أن شرب الخمر يمنع عن ذِكْرَ اللَّه فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ شُرْبَ الْخُمُورِ يُورِثُ الطَّرَبَ وَاللَّذَّةَ الْجُسْمَانِيَّةَ، وَالنَّفْسُ إِذَا اسْتَغْرَقَتْ فِي اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ غَفَلَتْ عَنْ ذِكْرِ اللَّه تَعَالَى، وَأَمَّا أَنَّ الْمَيْسِرَ مَانِعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّه وَعَنِ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ غَالِبًا صَارَ اسْتِغْرَاقُهُ فِي لَذَّةِ الْغَلَبَةِ مَانِعًا مِنْ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِ شَيْءٌ سِوَاهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ مِمَّا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّه وَعَنِ الصَّلَاةِ.

فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ هِيَ هَذِهِ الْمَعَانِي، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ كَانَتْ حَاصِلَةً قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ مَعَ أَنَّ التَّحْرِيمَ مَا كَانَ حَاصِلًا وَهَذَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ هَذَا التَّعْلِيلِ:

قُلْنَا: هَذَا هُوَ أَحَدُ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهَا عِلَّةً.

وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى اشْتِمَالَ شُرْبِ الْخَمْرِ وَاللَّعِبِ بِالْمَيْسِرِ عَلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ فِي الدِّينِ.

قَالَ تَعَالَى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النِّسَاءِ: ٤٣] قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا يَا رَبِّ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ اسْتِفْهَامًا فِي الظَّاهِرِ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هُوَ النَّهْيُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا حَسُنَ هَذَا الْمَجَازُ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ وَأَظْهَرَ قُبْحَهَا لِلْمُخَاطَبِ، فَلَمَّا اسْتَفْهَمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ تَرْكِهَا لَمْ يَقْدِرِ الْمُخَاطَبُ إِلَّا عَلَى الإقرار بالترك، فكأنه قيل له: أتفعله بعد ما قَدْ ظَهَرَ مِنْ قُبْحِهِ مَا قَدْ ظَهَرَ فَصَارَ قَوْلُهُ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ جَارِيًا مَجْرَى تَنْصِيصِ اللَّه تَعَالَى عَلَى وُجُوبِ الِانْتِهَاءِ مَقْرُونًا بِإِقْرَارِ الْمُكَلَّفِ بِوُجُوبِ الِانْتِهَاءِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ مِنْ وجوه: أحدها: تَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِإِنَّمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لِلْحَصْرِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا رِجْسَ وَلَا شَيْءَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ وثانيها: أَنَّهُ تَعَالَى قَرَنَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَمِنْهُ

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ الْوَثَنِ»

وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالِاجْتِنَابِ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ جَعَلَ الِاجْتِنَابَ مِنَ الْفَلَاحِ، وَإِذَا كَانَ الِاجْتِنَابُ فَلَاحًا كَانَ الِارْتِكَابُ خَيْبَةً، وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ شَرَحَ أَنْوَاعَ الْمَفَاسِدِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَهِيَ وُقُوعُ التَّعَادِي وَالتَّبَاغُضِ بَيْنَ الْخَلْقِ/ وَحُصُولُ الْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِ اللَّه تَعَالَى وَعَنِ الصَّلَاةِ. وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ مَا يُنْتَهَى بِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: قَدْ تُلِيَ عَلَيْكُمْ مَا فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ وَالْقَبَائِحِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ مَعَ هَذِهِ الصَّوَارِفِ؟ أَمْ أَنْتُمْ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ تُوعَظُوا بِهَذِهِ الْمَوَاعِظِ. وَسَابِعُهَا: أنه تعالى قال بعد ذلك.

[[سورة المائدة (٥) : آية ٩٢]]

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢)

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ وَأَطِيعُوا اللَّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَمْرِهِمَا بِالِاجْتِنَابِ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَقَوْلُهُ وَاحْذَرُوا أي احذروا عن مخالفتها فِي هَذِهِ التَّكَالِيفِ.

وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ:

<<  <  ج: ص:  >  >>