الْخَيْمَةِ الْمُتَّخَذَةِ إِمَّا مِنَ الْكِرْبَاسِ أَوْ مِنَ الْأَدِيمِ، وَالشَّيْءُ كُلَّمَا كَانَ أَثْقَلَ وَأَشَدَّ اكْتِنَازًا كَانَ تَطَايُرُهُ فِي الْهَوَاءِ أَبْعَدَ، فَكَانَتِ النَّارُ الَّتِي تُطَيِّرُ الْقَصْرَ إِلَى الْهَوَاءِ أَقْوَى مِنَ النَّارِ الَّتِي تُطَيِّرُ الطِّرَافَ فِي الْهَوَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ أَمْرِ النَّارِ فِي الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ، فَكَانَ التَّشْبِيهُ بِالْقَصْرِ أَوْلَى الْحَادِيَ عَشَرَ: وَهُوَ أَنَّ سُقُوطَ الْقَصْرِ عَلَى الْإِنْسَانِ أَدْخَلُ فِي الْإِيلَامِ وَالْإِيجَاعِ مِنْ سُقُوطِ الطِّرَافِ عَلَيْهِ، فَتَشْبِيهُ تِلْكَ الشَّرَارَاتِ بِالْقَصْرِ يُفِيدُ أَنَّ تِلْكَ الشَّرَارَاتِ إِذَا ارْتَفَعَتْ فِي الْهَوَاءِ ثُمَّ سَقَطَتْ عَلَى الْكَافِرِ فَإِنَّهَا تُؤْلِمُهُ إِيلَامًا شَدِيدًا، فَصَارَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَزَالُ يَسْقُطُ عَلَيْهِ مِنَ
الْهَوَاءِ شَرَارَاتٌ كَالْقُصُورِ بِخِلَافِ وُقُوعِ الطِّرَافِ عَلَى الْإِنْسَانِ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْلِمُ فِي الْغَايَةِ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ الْجِمَالَ فِي أَكْثَرِ الْأُمُورِ تَكُونُ مُوَقَّرَةً، فَتَشْبِيهُ الشَّرَارَاتِ بِالْجِمَالِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الشَّرَارَاتِ أَنْوَاعًا مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ لَا يُحْصِي عَدَدَهَا إِلَّا اللَّهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: تِلْكَ الشَّرَارَاتُ كَالْجِمَالَاتِ الْمُوَقَّرَةِ بِأَنْوَاعِ الْمِحْنَةِ وَالْبَلَاءِ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ حَاصِلٍ فِي الطِّرَافِ فَكَانَ التَّشْبِيهُ بِالْجِمَالَاتِ أَتَمَّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ تَوَالَتْ عَلَى الْخَاطِرِ فِي اللَّحْظَةِ الْوَاحِدَةِ وَلَوْ تَضَرَّعْنَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي طَلَبِ الْأَزْيَدِ/ لَأَعْطَانَا أَيَّ قَدْرٍ شِئْنَا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ كَافِيَةٌ فِي بَيَانِ التَّرْجِيحِ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا تُعَدُّ من الإطناب والله أعلم.
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٣٥ الى ٣٧]
هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧)
نَصَبَ الْأَعْمَشُ (يَوْمَ) أَيْ هَذَا الَّذِي قَصَّ عَلَيْكُمْ وَاقِعٌ يَوْمَئِذٍ، اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ السَّادِسُ: مِنَ أَنْوَاعِ تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ وَتَشْدِيدِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ وَلَا حُجَّةٌ فِيمَا أَتَوْا بِهِ مِنَ الْقَبَائِحِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى دَفْعِ الْعَذَابِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَيَجْتَمِعُ فِي حَقِّهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْعَذَابِ أَحَدُهَا: عَذَابُ الْخَجَالَةِ، فَإِنَّهُ يَفْتَضِحُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَيَظْهَرُ لِكُلٍّ قُصُورُهُ وَتَقْصِيرُهُ وَكُلُّ مَنْ لَهُ عَقْلٌ سَلِيمٌ، عَلِمَ أَنَّ عَذَابَ الْخَجَالَةِ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ وَالِاحْتِرَاقِ بِالنَّارِ وَثَانِيهَا: وُقُوفُ الْعَبْدِ الْآبِقِ عَلَى بَابِ الْمَوْلَى وَوُقُوعُهُ فِي يَدِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ الصَّادِقُ الَّذِي يَسْتَحِيلُ الْكَذِبُ عَلَيْهِ، عَلَى مَا قَالَ: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق: ٢٩] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ يَرَى فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ خُصَمَاءَهُ الَّذِينَ كَانَ يَسْتَخِفُّ بِهِمْ وَيَسْتَحْقِرُهُمْ فَائِزِينَ بِالثَّوَابِ وَالتَّعْظِيمِ، وَيَرَى نَفْسَهُ فَائِزًا بِالْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَهَذِهِ الثلاثة أَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ الرُّوحَانِيِّ وَرَابِعُهَا: الْعَذَابُ الْجُسْمَانِيُّ وَهُوَ مُشَاهَدَةُ النَّارِ وَأَهْوَالِهَا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ فِي حَقِّهِ هَذِهِ الْوُجُوهُ مِنَ الْعَذَابِ بَلْ مَا هُوَ مِمَّا لَا يَصِفُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّهُ، لَا جَرَمَ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ:
الْأَوَّلُ: كَيْفَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَقَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزُّمَرِ: ٣١] وَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: ٢٣] وَقَوْلِهِ: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النِّسَاءِ: ٤٢] وَيُرْوَى أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: فِيهِ إِضْمَارٌ، وَالتَّقْدِيرُ:
هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ فِيهِ بِحُجَّةٍ، وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ فِيمَا عَمِلُوهُ عُذْرٌ صحيح وجواب مستقيم، فإذا لم ينطلقوا بِحُجَّةٍ سَلِيمَةٍ وَكَلَامٍ مُسْتَقِيمٍ فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَنْطِقُوا، لِأَنَّ مَنْ نَطَقَ بِمَا لَا يُفِيدُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ، وَنَظِيرُهُ مَا يُقَالُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute