إِنَّمَا كَانَتْ تَصِلُ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَحْمِلُونَهَا إِلَيْهِمْ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُ الْعَبْدِ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى لَمَا صَحَّتْ تِلْكَ الْإِضَافَةُ، فَإِنْ قِيلَ سَبَبُ تِلْكَ الْإِضَافَةِ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَلْقَى تِلْكَ الدَّوَاعِيَ فِي قُلُوبِ مَنْ ذَهَبَ بِتِلْكَ الْأَرْزَاقِ إِلَيْهِمْ، قُلْنَا تِلْكَ الدَّوَاعِي إِنِ اقْتَضَتِ الرُّجْحَانَ، فَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الرُّجْحَانُ، فَقَدْ حَصَلَ الْوُجُوبُ وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلِ الرُّجْحَانُ انْقَطَعَتِ الْإِضَافَةُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا بَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْأَرْزَاقَ مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِمْ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَجْلِ أَنَّهُمْ مَتَى عَلِمُوا ذَلِكَ صَارُوا بِحَيْثُ لَا يَخَافُونَ أَحَدًا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَرْجُونَ أَحَدًا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَبْقَى نَظَرُهُمْ مُنْقَطِعًا عَنِ الْخَلْقِ مُتَعَلِّقًا بِالْخَالِقِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ كَمَالَ الْإِيمَانِ وَالْإِعْرَاضَ بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِقْبَالُ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى طاعة الله تعالى.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ الثَّانِي عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ لِأَهْلِ مَكَّةَ مَا خُصُّوا بِهِ من النعم أتبعه بما أنزله اللَّهُ تَعَالَى بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي نِعَمِ الدُّنْيَا، فَلَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَزَالَ اللَّهُ عَنْهُمْ تِلْكَ النِّعَمَ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا قَالُوا إِنَّا لَا نُؤْمِنُ خَوْفًا مِنْ زَوَالِ نِعْمَةِ الدُّنْيَا، فَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ الْإِيمَانِ هُوَ الَّذِي يُزِيلُ هَذِهِ النِّعَمَ، لَا الْإِقْدَامُ عَلَى الْإِيمَانِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْبَطَرُ سُوءُ احْتِمَالِ الْغِنَى وَهُوَ أَنْ لَا يَحْفَظَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ وَانْتَصَبَتْ مَعِيشَتَهَا إِمَّا بِحَذْفِ الْجَارِّ وَاتِّصَالِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ:
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الْأَعْرَافِ: ١٥٥] أَوْ بِتَقْدِيرِ حَذْفِ الزَّمَانِ الْمُضَافِ وَأَصْلُهُ بَطِرَتْ أَيَّامَ مَعِيشَتِهَا، وَإِمَّا تَضْمِينُ بَطِرَتْ مَعْنَى كَفَرَتْ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ: فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا فَفِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمْ يَسْكُنْهَا إِلَّا الْمُسَافِرُ وَمَارُّ الطَّرِيقِ يَوْمًا أَوْ سَاعَةً. وَثَانِيهَا: يُحْتَمَلُ أَنَّ شُؤْمَ مَعَاصِي الْمُهْلَكِينَ بَقِيَ أَثَرُهُ فِي دِيَارِهِمْ، فَكُلُّ مَنْ سَكَنَهَا مِنْ أَعْقَابِهِمْ لَمْ يَبْقَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ لَهَا بَعْدَ هَلَاكِ أَهْلِهَا، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ لِلشَّيْءِ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ قِيلَ إِنَّهُ مِيرَاثُ اللَّهِ لِأَنَّهُ الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ خَلْقِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَهْلَكَ تِلْكَ الْقُرَى بِسَبَبِ بَطَرِ أَهْلِهَا، فَكَأَنَّ سَائِلًا أَوْرَدَ السُّؤَالَ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: لِمَاذَا مَا أَهْلَكَ اللَّهُ الْكُفَّارَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَغْرِقِينَ فِي الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ؟ الثَّانِي: لِمَاذَا مَا أَهْلَكَهُمْ بَعْدَ مَبْعَثِ محمد صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مَعَ تَمَادِي الْقَوْمِ فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ تعالى والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ؟ فَأَجَابَ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ بَيَانَ أَنَّ عَدَمَ الْبَعْثَةِ يَجْرِي مَجْرَى الْعُذْرِ لِلْقَوْمِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ إِهْلَاكُهُمْ إِلَّا بَعْدَ الْبَعْثَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا أَيْ فِي الْقَرْيَةِ الَّتِي هِيَ أُمُّهَا وَأَصْلُهَا وَقَصَبَتُهَا الَّتِي هِيَ أَعْمَالُهَا وَتَوَابِعُهَا رَسُولًا لِإِلْزَامِ الْحُجَّةِ وَقَطْعِ الْمَعْذِرَةِ الثَّانِي: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى الَّتِي فِي الْأَرْضِ حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّ الْقُرَى يَعْنِي مَكَّةَ رَسُولًا وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وسلم خاتم الأنبياء، ومعنى: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا يؤدي ويبلغ، وأجاب عن
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute