للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنَّا

[الْمَائِدَةِ: ٥٩] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مَا أَتَيْنَا بِذَنْبٍ تُعَذِّبُنَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا. وَالْمُرَادُ: مَا أَتَى بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.

ثُمَّ قَالُوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً مَعْنَى الْإِفْرَاغِ فِي اللُّغَةِ الصَّبُّ. يُقَالُ: دِرْهَمٌ مُفْرَغٌ إِذَا كَانَ مَصْبُوبًا فِي قَالَبِهِ وَلَيْسَ بِمَضْرُوبٍ وَأَصْلُهُ من الفراغ الْإِنَاءِ وَهُوَ صَبُّ مَا فِيهِ حَتَّى يَخْلُوَ الْإِنَاءُ وَهُوَ مِنَ الْفَرَاغِ فَاسْتُعْمِلَ فِي الصَّبْرِ عَلَى التَّشْبِيهِ بِحَالِ إِفْرَاغِ الْإِنَاءِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى صُبَّ عَلَيْنَا الصَّبْرَ عِنْدَ الصَّلْبِ وَالْقَطْعِ وَفِي الْآيَةِ فَوَائِدُ:

الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أَكْمَلُ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْزِلْ عَلَيْنَا صَبْرًا لِأَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ إِفْرَاغَ الْإِنَاءِ هُوَ صَبُّ مَا فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ فَكَأَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ كُلَّ الصَّبْرِ لَا بَعْضَهُ.

وَالْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ صَبْراً مَذْكُورٌ بِصِيغَةِ التَّنْكِيرِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ أَيْ صَبْرًا كَامِلًا تَامًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ [الْبَقَرَةِ: ٩٦] أَيْ عَلَى حَيَاةٍ كَامِلَةٍ تَامَّةٍ.

وَالْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ ذَلِكَ الصَّبْرَ مِنْ قِبَلِهِمْ وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ ثُمَّ إِنَّهُمْ طَلَبُوهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَخْلِيقِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ. قَالَ الْقَاضِي: إِنَّمَا سَأَلُوهُ تَعَالَى الْأَلْطَافَ الَّتِي تَدْعُوهُمْ إِلَى الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فِي الْأَدْعِيَةِ.

وَالْجَوَابُ: هَذَا عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ ثُمَّ الدَّلِيلُ يَأْبَاهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الدَّاعِيَةِ الْجَازِمَةِ وَحُصُولُهَا لَيْسَ إِلَّا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَكُونُ الْكُلُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ فَمَعْنَاهُ تَوَفَّنَا عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ ظَاهِرٌ. وَالْمُعْتَزِلَةُ يَحْمِلُونَهُ عَلَى فِعْلِ الْأَلْطَافِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ مِمَّا سَبَقَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْقَاضِي بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ وَاحِدٌ. فَقَالَ إِنَّهُمْ قَالُوا أَوَّلًا آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا ثُمَّ قَالُوا ثَانِيًا: وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ فوجب ان يكون هذا الإسلام هو ذلك الْإِيمَانَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا هُوَ الآخر. والله اعلم.

[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٢٧ الى ١٢٨]

وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨)

اعْلَمْ أَنَّ بَعْدَ وُقُوعِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى وَلَا أَخَذَهُ وَلَا حَبَسَهُ بَلْ خَلَّى سَبِيلَهُ فَقَالَ قَوْمُهُ لَهُ: أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ كُلَّمَا رَأَى مُوسَى خَافَهُ أَشَدَّ الْخَوْفِ فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ إِلَّا أَنَّ قَوْمَهُ لَمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>