فَالشُّبْهَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِيمَانَ هَؤُلَاءِ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ لِقُوَّةِ الدَّلِيلِ بَلْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ تَوَاطَئُوا مَعَ مُوسَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِكَ وَنُقِرُّ بِنُبُوَّتِكَ فَهَذَا الْإِيمَانُ إِنَّمَا حَصَلَ بِهَذَا الطَّرِيقِ.
وَالشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ غَرَضَ مُوسَى وَالسَّحَرَةِ فِيمَا تَوَاطَئُوا عَلَيْهِ إِخْرَاجُ الْقَوْمِ مِنَ الْمَدِينَةِ وَإِبْطَالُ مُلْكِهِمْ وَمَعْلُومٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ مُفَارَقَةَ الْوَطَنِ وَالنِّعْمَةِ الْمَأْلُوفَةِ مِنْ أَصْعَبِ الْأُمُورِ فَجَمَعَ فِرْعَوْنُ اللَّعِينُ بَيْنَ الشُّبْهَتَيْنِ اللَّتَيْنِ لَا يُوجَدُ أَقْوَى مِنْهُمَا فِي هَذَا الْبَابِ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي حَدِيثٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ مُوسَى وَأَمِيرَ السَّحَرَةِ الْتَقَيَا فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ:
أَرَأَيْتُكَ إِنْ غَلَبْتُكَ أَتُؤْمِنُ بِي وَتَشْهَدُ أَنَّ مَا جِئْتُ بِهِ الْحَقُّ؟ قَالَ السَّاحِرُ: لَآتِيَنَّ غَدًا بِسِحْرٍ لَا يغلبه سحر فو الله لَئِنْ غَلَبْتَنِي لَأُومِنَنَّ بِكَ وَفِرْعَوْنُ يَنْظُرُ إِلَيْهِمَا وَيَسْمَعُ قَوْلَهُمَا فَهَذَا هُوَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ حَصَلَ وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنَّ فِرْعَوْنَ أَلْقَى هَذَا الْكَلَامَ فِي الْبَيْنِ لِيَصِيرَ صَارِفًا لِلْعَوَامِّ عَنِ التَّصْدِيقِ بِنُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ الْقَاضِي: وَقَوْلُهُ: قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ دَلِيلٌ عَلَى مُنَاقَضَةِ فِرْعَوْنَ فِي ادِّعَاءِ الْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ إِلَهًا لَمَا جَازَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ مَعَ أَنَّهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى إِلَهِيَّةِ غَيْرِهِ ثُمَّ قَالَ: وَذَلِكَ مِنْ خِذْلَانِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي يَظْهَرُ عَلَى الْمُبْطِلِينَ.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ إلى قوله أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّهُ ابْتِدَاءُ وَعِيدٍ ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى هَذَا الْوَعِيدِ الْمُجْمَلِ بَلْ فَسَّرَهُ فَقَالَ: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ وَقَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ مَعْرُوفُ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنْ يَقْطَعَهُمَا مِنْ جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ إِمَّا مِنَ الْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى أَوْ مِنَ الْيَدِ الْيُسْرَى وَالرِّجْلِ الْيُمْنَى وَأَمَّا الصَّلْبُ فَمَعْرُوفٌ فَتَوَعَّدَهُمْ بِهَذَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ؟ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ عَلَى وُقُوعِهِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [الأعراف: ١٢٧] وَلَوْ أَنَّهُ تَرَكَ أُولَئِكَ السَّحَرَةَ وَقَوْمَهُ أَحْيَاءً وَمَا قَتَلَهُمْ لَذَكَرَهُمْ أَيْضًا وَلَحَذَّرَهُمْ عَنِ الْإِفْسَادِ الْحَاصِلِ مِنْ جِهَتِهِمْ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُمْ دَخَلُوا تَحْتَ قَوْمِهِ فَلَا وَجْهَ لِإِفْرَادِهِمْ بِالذِّكْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ نَزَلَ بِهِمْ بَلَاءٌ شَدِيدٌ عَظِيمٌ حَتَّى طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُصَبِّرَهُمْ عَلَيْهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الصَّبْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَعَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَى وَعِيدِهِ. الثَّالِثُ: مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ/ مُبَالَغَةً مِنْهُ فِي تَحْذِيرِ الْقَوْمِ عَنْ قَبُولِ دِينِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْ فِرْعَوْنَ ذَلِكَ بَلِ اسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمُ الدُّعَاءَ فِي قَوْلِهِمْ: وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ تَوَفِّيهِمْ مِنْ جِهَتِهِ لَا بِهَذَا الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ قَرِيبٌ.
ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنِ الْقَوْمِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مِنَ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ هَذَا الْوَعِيدِ أَحْسَنُ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُمْ لِفِرْعَوْنَ:
وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا فَبَيَّنُوا أَنَّ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ لَا يُوجِبُ الْوَعِيدَ وَلَا إِنْزَالَ النِّقْمَةِ بِهِمْ بَلْ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَتَأَسَّى بِهِمْ فِي الْإِقْرَارِ بِالْحَقِّ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْبَاطِلِ عِنْدَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ يُقَالُ: نَقَمْتُ أَنْقِمُ إِذَا بَالَغْتَ فِي كَرَاهِيَةِ الشَّيْءِ وَقَدْ مَرَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute