للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ وَكَفى بِرَبِّكَ [الْإِسْرَاءِ: ٦٥] فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ زَائِدَةٌ، هكذا نقله الواحدي عن الزجاج وحَسِيباً نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ كَفَى اللَّهُ حَالَ كونه محاسبا، وحال كونه كافيا.

[[سورة النساء (٤) : آية ٧]]

لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧)

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوَارِيثِ وَالْفَرَائِضِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَوْسَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ تُوُفِّيَ عَنْ ثَلَاثِ بَنَاتٍ وَامْرَأَةٍ، فَجَاءَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَمِّهِ وَهُمَا وَصِيَّانِ لَهُ يُقَالُ لَهُمَا: سُوَيْدٌ، وَعَرْفَجَةُ وَأَخَذَا مَالَهُ. فَجَاءَتِ امْرَأَةُ أَوْسٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَتِ الْقِصَّةَ، وَذَكَرَتْ أَنَّ الْوَصِيَّيْنِ مَا دَفَعَا إِلَيَّ بَنَاتِهِ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ارْجِعِي إِلَى بَيْتِكَ حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُحْدِثُ اللَّهُ فِي أَمْرِكِ» فَنَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ لِلرِّجَالِ نَصِيبًا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبًا، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنِ الْمِقْدَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَأَرْسَلَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْوَصِيَّيْنِ وَقَالَ: «لَا تَقْرَبَا مِنْ مَالِ أَوْسٍ شَيْئًا» ثُمَّ نَزَلَ بَعْدُ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النِّسَاءِ: ١١] وَنَزَلَ فَرْضُ الزَّوْجِ وَفَرْضُ الْمَرْأَةِ، فَأَمَرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْوَصِيَّيْنِ أَنْ يَدْفَعَا إِلَى الْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَيُمْسِكَا نَصِيبَ الْبَنَاتِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ أَرْسَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَيْهِمَا أَنِ ادْفَعَا نَصِيبَ بَنَاتِهَا إِلَيْهَا فَدَفَعَاهُ إِلَيْهَا،

فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ، وَيَقُولُونَ لَا يَرِثُ إِلَّا مَنْ طَاعَنَ بِالرِّمَاحِ وَذَادَ عَنِ الْحَوْزَةِ وَحَازَ الْغَنِيمَةَ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْإِرْثَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالرِّجَالِ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَذَا الْقَدْرَ، ثُمَّ ذَكَرَ التَّفْصِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَمْتَنِعُ إِذَا كَانَ لِلْقَوْمِ عَادَةٌ فِي تَوْرِيثِ الْكِبَارِ دُونَ الصِّغَارِ وَدُونَ النِّسَاءِ، أَنْ يَنْقُلَهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ تِلْكَ الْعَادَةِ قَلِيلًا قَلِيلًا عَلَى التَّدْرِيجِ، لِأَنَّ الِانْتِقَالَ عَنِ الْعَادَةِ شَاقٌّ ثَقِيلٌ عَلَى الطَّبْعِ، فَإِذَا كَانَ دُفْعَةً عَظُمَ وَقْعُهُ عَلَى الْقَلْبِ، وَإِذَا كَانَ عَلَى التَّدْرِيجِ سَهُلَ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْمُجْمَلَ أَوَّلًا، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِالتَّفْصِيلِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ قَالَ: / لِأَنَّ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ والأخوال وَأَوْلَادَ الْبَنَاتِ مِنَ الْأَقْرَبِينَ، فَوَجَبَ دُخُولُهُمْ تَحْتَ قَوْلِهِ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ قَدْرَ ذَلِكَ النَّصِيبِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، إِلَّا أَنَّا نُثْبِتُ كَوْنَهُمْ مُسْتَحِقِّينَ لِأَصِلِ النَّصِيبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَمَّا الْمِقْدَارُ فَنَسْتَفِيدُهُ مِنْ سَائِرِ الدَّلَائِلِ.

وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ نَصِيباً مَفْرُوضاً أَيْ نَصِيبًا مُقَدَّرًا، وَبِالْإِجْمَاعِ لَيْسَ لِذَوِي الْأَرْحَامِ نَصِيبٌ مُقَدَّرٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا دَاخِلِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأَقْرَبِينَ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ ذَوِي الْأَرْحَامِ مِنَ الْأَقْرَبِينَ؟ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَقْرَبِينَ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي دُخُولَ أَكْثَرِ الْخَلْقِ فِيهِ، لِأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ لَهُ نَسَبٌ مَعَ غَيْرِهِ إِمَّا بِوَجْهٍ قَرِيبٍ أَوْ بِوَجْهٍ بَعِيدٍ، وَهُوَ الِانْتِسَابُ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السلام،