عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ هَلْ هُوَ مُصَدَّقٌ؟ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُصَدَّقُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يُصَدَّقُ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ أَمْرٌ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، وَأَيْضًا قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقَيِّمُ غَيْرُ مُؤْتَمَنٍ مِنْ جِهَةِ الْيَتِيمِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُؤْتَمَنٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَطَعَنَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي هَذَا الْكَلَامِ مَعَ السَّفَاهَةِ الشَّدِيدَةِ وَقَالَ: لَوْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ عِلَّةً لَنَفْيِ التَّصْدِيقِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُصَدَّقَ الْقَاضِي إِذَا قَالَ لِلْيَتِيمِ: قَدْ دَفَعْتُ إِلَيْكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ، وَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ فِي الْأَبِ إِذَا قَالَ بَعْدَ بُلُوغِ الصَّبِيِّ: قَدْ دَفَعْتُ مَالَكَ إِلَيْكَ أَنْ لَا يُصَدَّقَ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ، وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا أَنْ يُوجِبَ الضَّمَانَ عَلَيْهِمْ إِذَا تَصَادَقُوا بَعْدَ الْبُلُوغِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ لِأَنَّهُ أَمْسَكَ مَالَهُ مِنْ غَيْرِ ائْتِمَانٍ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّ قَوْلَكَ هَذَا لَبَعِيدٌ عَنْ مَعَانِي الْفِقْهِ، أَمَّا النَّقْضُ بِالْقَاضِي فَبَعِيدٌ، لِأَنَّ الْقَاضِيَ حَاكِمٌ فَيَجِبُ إِزَالَةُ التُّهْمَةِ عَنْهُ لِيَصِيرَ قَضَاؤُهُ نَافِذًا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَتَمَكَّنَ كُلُّ مَنْ قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِأَنْ يَنْسُبَهُ إِلَى الْكَذِبِ وَالْمَيْلِ وَالْمُدَاهَنَةِ، وَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ الْقَاضِي إِلَى قَاضٍ آخَرَ، وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي وَصِيِّ الْيَتِيمِ، وَأَمَّا الْأَبُ فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ شَفَقَتَهُ أَتَمُّ مِنْ شَفَقَةِ الْأَجْنَبِيِّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ قِلَّةِ التُّهْمَةِ فِي حَقِّ الْأَبِ قِلَّتُهَا فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ، وَأَمَّا إِذَا تَصَادَقُوا بَعْدَ/ الْبُلُوغِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ فَنَقُولُ: إِنْ كَانَ قَدِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ هَلَكَ لِسَبَبِ تَقْصِيرِهِ فَهَهُنَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ، أَمَّا إِذَا اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ هَلَكَ لَا بِتَقْصِيرِهِ، فَهَهُنَا يَجِبُ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ، وَإِلَّا لَصَارَ ذَلِكَ مَانِعًا لِلنَّاسِ مِنْ قَبُولِ الْوَصَايَةِ، فَيَقَعُ الْخَلَلُ فِي هَذَا الْمُهِمِّ الْعَظِيمِ، فَأَمَّا الْإِشْهَادُ عِنْدَ الرَّدِّ إِلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَإِنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الْفَرْقَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَتِيمَ حَصَلَ فِي حَقِّهِ مَا يُوجِبُ التُّهْمَةَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَرَيَانِ الْعَادَةِ بِكَثْرَةِ إِقْدَامِ الْوَلِيِّ عَلَى ظُلْمِ الْأَيْتَامِ وَالصِّبْيَانِ، وَإِذَنْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَأَكُّدِ مُوجِبَاتِ التُّهْمَةِ فِي حَقِّ وَلِيِّ الْيَتِيمِ.
ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا أَشْعَرَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ رِعَايَةُ جَانِبِ الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنِ ادِّعَاءِ دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ حُضُورِ الشَّاهِدِ، صَارَ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُ مِنَ الظُّلْمِ وَالْبَخْسِ وَالنُّقْصَانِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: فَأَشْهِدُوا كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ لِظَاهِرِ الْإِيجَابِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنَّ الْقَرَائِنَ وَالْمَصَالِحَ تَقْتَضِي الْإِيجَابَ، ثُمَّ قَالَ هَذَا الرَّازِيُّ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِيهِ بِغَيْرِ إِشْهَادٍ، اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهِ وَإِمْسَاكِهِ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ حَتَّى يُوصِلَهُ إِلَى الْيَتِيمِ فِي وَقْتِ اسْتِحْقَاقِهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَدَائِعِ وَالْمُضَارِبَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُصَدَّقًا عَلَى الرَّدِّ كَمَا يُصَدَّقُ عَلَى رَدِّ الْوَدِيعَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَصُورَةِ الْوَدِيعَةِ فَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَاعْتِرَاضُكَ عَلَى ذَلِكَ الْفَرْقِ قَدْ سَبَقَ إِبْطَالُهُ، وَأَيْضًا فَعَادَتُكَ تَرْكُ الِالْتِفَاتِ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِقِيَاسٍ رَكِيكٍ تَتَخَيَّلُهُ، وَمِثْلُ هَذَا الْفِقْهِ مُسَلَّمٌ لَكَ، وَلَا يَجِبُ الْمُشَارَكَةُ فِيهِ مَعَكَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَالْأَزْهَرِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْحَسِيبُ بِمَعْنَى الْمُحَاسِبِ، وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْكَافِي، فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُمْ لِلرَّجُلِ لِلتَّهْدِيدِ: حَسْبُهُ اللَّهُ وَمَعْنَاهُ يُحَاسِبُهُ اللَّهُ عَلَى مَا يَفْعَلُ مِنَ الظُّلْمِ، وَنَظِيرُ قَوْلِنَا الْحَسِيبُ بِمَعْنَى الْمُحَاسِبِ، قَوْلُنَا الشَّرِيبُ بِمَعْنَى الْمُشَارِبِ، وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُمْ:
حَسِيبُكَ اللَّهُ أَيْ كَافِيكَ اللَّهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا وَعِيدٌ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَإِعْلَامٌ لَهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ بَاطِنَهُ كَمَا يَعْلَمُ ظَاهِرَهُ لِئَلَّا يَنْوِيَ أَوْ يَعْمَلَ فِي مَالِهِ مَا لَا يَحِلُّ، وَيَقُومَ بِالْأَمَانَةِ التَّامَّةِ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ مَالُهُ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ سَوَاءً فَسَّرْنَا الْحَسِيبَ بِالْمُحَاسِبِ أَوْ بِالْكَافِي.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute