للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ يُوجِبُ الْكُفْرَ، فَقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الصِّفَةَ ذَكَرَ قَبْلَهَا مَا يُوجِبُ الْكُفْرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَذَكَرَ أَيْضًا بَعْدَهَا مَا يُوجِبُ الْكُفْرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَدَمُ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ كُفْرًا لَكَانَ ذِكْرُهُ فِيمَا بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ الْمُوجِبَتَيْنِ لِلْكُفْرِ قَبِيحًا، لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَكُونُ فَصِيحًا إِذَا كَانَتِ الْمُنَاسَبَةُ مَرْعِيَّةً بَيْنَ أَجْزَائِهِ، ثُمَّ أَكَّدُوا ذَلِكَ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَكَمَ بِكُفْرِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْجَوَابُ: لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ وَهُمَا حَاصِلَانِ عِنْدَ عَدَمِ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَلَمْ يَلْزَمْ حُصُولُ الْكُفْرِ بِسَبَبِ عَدَمِ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الْكُفَّارِ أَرْدَفَهُ بِوَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أَيْ غَيْرُ مَقْطُوعٍ، مِنْ قَوْلِكَ مَنَنْتُ الْحَبْلَ، أَيْ قَطَعْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ قَدْ مَنَّهُ السَّفَرُ، أَيْ قَطَعَهُ، وَقِيلَ لَا يَمُنُّ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا سَمَّاهُ أَجْرًا، فَإِذًا الْأَجْرُ لَا يُوجِبُ الْمِنَّةَ، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي الْمَرْضَى وَالزَّمْنَى إِذَا عَجَزُوا عَنِ الطَّاعَةِ كُتِبَ لهم الأجر كأحسن ما كانوا يعملون.

[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٩ الى ١٢]

قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢)

[في قوله تعالى قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنْ يَقُولَ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الكهف: ١١٠] فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ [فصلت: ٦] أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُ تَعَالَى وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَعْبُودِيَّةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ بَيَّنَ كَمَالَ قدرته وحكمته في خلق السموات وَالْأَرْضِ فِي مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ، فَمَنْ هَذَا صِفَتُهُ كَيْفَ يَجُوزُ جَعْلُ الْأَصْنَامِ الْخَسِيسَةِ شُرَكَاءَ لَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَعْبُودِيَّةِ؟

فَهَذَا تَقْرِيرُ النَّظْمِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَيِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِهَمْزَةٍ وَيَاءٍ بَعْدَهَا خَفِيفَةٍ سَاكِنَةٍ بِلَا مَدٍّ، وَأَمَّا نَافِعٌ فِي رِوَايَةِ قَالُونَ وأبوا عَمْرٍو فَعَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، إِلَّا أَنَّهُمَا يَمُدَّانِ، وَالْبَاقُونَ هَمْزَتَيْنِ بِلَا مَدٍّ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تعالى: أَإِنَّكُمْ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، وَقَدْ ذَكَرَ عَنْهُمْ شَيْئَيْنِ مُنْكَرَيْنِ أَحَدُهُمَا:

الْكُفْرُ بِاللَّهِ. وَهُوَ قَوْلُهُ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَثَانِيهِمَا: إِثْبَاتُ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ لَهُ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْكُفْرُ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا مُغَايِرًا لِإِثْبَاتِ الْأَنْدَادِ لَهُ، ضَرُورَةَ أن عطف أحدهما على لآخر يُوجِبُ التَّغَايُرَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كُفْرِهِمْ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْدِرُ عَلَى حَشْرِ الْمَوْتَى، فَلَمَّا نَازَعُوا فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ فَقَدْ كَفَرُوا بِاللَّهِ الثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يُنَازِعُونَ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ، وَفِي بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْحٌ فِي الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ كُفْرٌ بِاللَّهِ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُضِيفُونَ إِلَيْهِ الْأَوْلَادَ، وَذَلِكَ أَيْضًا قدح

<<  <  ج: ص:  >  >>