للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَمْ يَرْتَدِعُوا حَتَّى دَعَا عَلَيْهِمْ نَبِيُّهُمْ، وَلَا يَدْعُو نَبِيٌّ عَلَى قَوْمِهِ إِلَّا بَعْدَ الْإِصْرَارِ الْعَظِيمِ، وَالظَّالِمُ وَاضِعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَالطَّاغِي الْمُجَاوِزُ الْحَدَّ فَالطَّاغِي أَدْخَلُ فِي الظُّلْمِ فَهُوَ كَالْمُغَايِرِ وَالْمُخَالِفِ فَإِنَّ الْمُخَالِفَ مُغَايِرٌ مَعَ وَصْفٍ آخَرَ زَائِدٍ، وَكَذَا الْمُغَايِرُ وَالْمُضَادُّ وَكُلُّ ضِدٍّ غَيْرٌ وَلَيْسَ كُلُّ غَيْرٍ ضِدًّا، وَعَلَيْهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَقَوْمَ نُوحٍ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَخْوِيفُ الظَّالِمِ/ بِالْهَلَاكِ، فَإِذَا قَالَ: هُمْ كَانُوا فِي غَايَةِ الظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ فَأُهْلِكُوا يَقُولُ الظَّالِمُ هُمْ كَانُوا أَظْلَمَ فَأُهْلِكُوا لِمُبَالَغَتِهِمْ فِي الظُّلْمِ، وَنَحْنُ مَا بَالَغْنَا فَلَا نَهْلَكُ، وَأَمَّا لَوْ قَالَ أُهْلِكُوا لِأَنَّهُمْ ظَلَمَةٌ لَخَافَ كُلُّ ظَالِمٍ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: أَظْلَمَ؟ نَقُولُ: الْمَقْصُودُ بَيَانُ شِدَّتِهِمْ وَقُوَّةِ أَجْسَامِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُقْدِمُوا عَلَى الظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ الشَّدِيدِ إِلَّا بِتَمَادِيهِمْ وَطُولِ أَعْمَارِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ مَا نَجَا أَحَدٌ مِنْهُمْ فَمَا حَالُ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ مِنَ الْعُمْرِ وَالْقُوَّةِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً [الزخرف: ٨] . وقوله تعالى:

[[سورة النجم (٥٣) : آية ٥٣]]

وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣)

الْمُؤْتَفِكَةَ الْمُنْقَلِبَةُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الأولى: قرئ: والمؤتفكات والمشهور فيه أنها قرئ قَوْمِ لُوطٍ لَكِنْ كَانَتْ لَهُمْ مَوَاضِعُ ائْتَفَكَتْ فَهِيَ مُؤْتَفِكَاتٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ كُلُّ مَنِ انْقَلَبَتْ مَسَاكِنُهُ وَدَثَرَتْ أَمَاكِنُهُ وَلِهَذَا خَتَمَ الْمُهْلِكِينَ بِالْمُؤْتَفِكَاتِ كَمَنْ يَقُولُ: مَاتَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَمْثَالِهِمْ وَأَشْكَالِهِمْ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَهْوى أَيْ أَهْوَاهَا بِمَعْنَى أَسْقَطَهَا، فَقِيلَ: أَهْوَاهَا مِنَ الْهَوَى إِلَى الْأَرْضِ مِنْ حَيْثُ حَمَلَهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى جَنَاحِهِ، ثُمَّ قَلَبَهَا، وَقِيلَ: كَانَتْ عِمَارَتُهُمْ مُرْتَفِعَةً فَأَهْوَاهَا بِالزَّلْزَلَةِ وَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى عَلَى مَا قُلْتُ: كَقَوْلِ الْقَائِلِ وَالْمُنْقَلِبَةُ قَلَبَهَا وَقَلْبُ الْمُنْقَلِبِ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، نَقُولُ: لَيْسَ مَعْنَاهُ الْمُنْقَلِبَةُ مَا انْقَلَبَتْ بِنَفْسِهَا بَلِ اللَّهُ قَلَبَهَا فَانْقَلَبَتْ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِصَاصِ الْمُؤْتَفِكَةِ بِاسْمِ الْمَوْضِعِ فِي الذِّكْرِ، وَقَالَ فِي عَادٍ وَثَمُودَ، وَقَوْمِ نُوحٍ اسْمَ الْقَوْمِ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ ثَمُودَ اسْمُ الْمَوْضِعِ فَذَكَرَ عَادًا بَاسِمِ الْقَوْمُ، وَثَمُودَ بَاسِمِ الْمَوْضِعِ، وَقَوْمَ نُوحٍ بِاسْمِ الْقَوْمِ وَالْمُؤْتَفِكَةَ بِاسْمِ الْمَوْضِعِ لِيُعْلِمَ أَنَّ الْقَوْمَ لَا يُمْكِنُهُمْ صَوْنَ أَمَاكِنِهِمْ عَنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا الْمَوْضِعَ يُحْصِنُ الْقَوْمَ عَنْهُ فَإِنَّ فِي الْعَادَةِ تَارَةً يَقْوَى السَّاكِنُ فَيَذُبُّ عَنْ مَسْكَنِهِ وَأُخْرَى يَقْوَى الْمَسْكَنُ فَيَرُدُّ عَنْ سَاكِنِهِ وَعَذَابُ اللَّهِ لَا يَمْنَعُهُ مَانِعٌ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي آيَتَيْنِ أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ [الْفَتْحِ: ٢٠] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ [الْحَشْرِ: ٢] فَفِي الْأَوَّلِ لَمْ يَقْدِرِ السَّاكِنُ عَلَى حِفْظِ مَسْكَنِهِ وَفِي الثَّانِي لَمْ يَقْوَ الْحِصْنُ عَلَى حِفْظِ السَّاكِنِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ عَادًا وَثَمُودَ وَقَوْمَ نُوحٍ، كَانَ أَمْرُهُمْ مُتَقَدِّمًا، وَأَمَاكِنُهُمْ كَانَتْ قَدْ دَثَرَتْ، وَلَكِنَّ أَمْرَهُمْ كَانَ مَشْهُورًا مُتَوَاتِرًا، وَقَوْمَ لُوطٍ كَانَتْ مَسَاكِنُهُمْ وَآثَارُ الِانْقِلَابِ فِيهَا ظَاهِرَةً، فَذَكَرَ الْأَظْهَرَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فِي كل قوم. ثم قال تعالى:

[[سورة النجم (٥٣) : آية ٥٤]]

فَغَشَّاها مَا غَشَّى (٥٤)

<<  <  ج: ص:  >  >>