للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جَمْعُهُ بِالْهَزِّ مَتَى أُرِيدَ جَمْعُهُ، فَخَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنَاقِيدَ مُجْتَمِعَةً، كَذَلِكَ الرُّطَبُ فَكَوْنُهَا ذاتُ الْأَكْمامِ من جملة إتمام الإنعام. ثم قال تعالى:

[[سورة الرحمن (٥٥) : آية ١٢]]

وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢)

اقْتَصَرَ مِنَ الْأَشْجَارِ عَلَى النَّخْلِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُهَا وَدَخَلَ فِي الْحَبِّ الْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَكُلُّ حَبٍّ يُقْتَاتُ بِهِ خُبْزًا أَوْ يُؤْدَمُ بِهِ بَيَّنَّا أَنَّهُ أَخَّرَهُ فِي الذِّكْرِ عَلَى سَبِيلِ الِارْتِقَاءِ دَرَجَةً فَدَرَجَةً فَالْحُبُوبُ أَنْفَعُ مِنَ النَّخْلِ وَأَعَمُّ وُجُودًا فِي الْأَمَاكِنِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذُو الْعَصْفِ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: التِّبْنُ الَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ دَوَابُّنَا الَّتِي خُلِقَتْ لَنَا ثَانِيهَا:

أَوْرَاقُ النَّبَاتِ الَّذِي لَهُ سَاقٌ الْخَارِجَةُ مِنْ جَوَانِبِ السَّاقِ كَأَوْرَاقِ السُّنْبُلَةِ مِنْ أَعْلَاهَا إِلَى أَسْفَلِهَا ثَالِثُهَا: الْعَصْفُ هُوَ وَرَقُ مَا يُؤْكَلُ فَحَسْبُ وَالرَّيْحانُ فِيهِ وُجُوهٌ، قِيلَ: مَا يُشَمُّ وَقِيلَ: الْوَرَقُ، وَقِيلَ: هُوَ الرَّيْحَانُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَنَا وَبَزْرُهُ يَنْفَعُ فِي الْأَدْوِيَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ رَأْسَهَا كَالزَّهْرِ وَهُوَ أَصْلُ وُجُودِ الْمَقْصُودِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الزَّهْرَ يَتَكَوَّنُ بِذَلِكَ الْحَبِّ وَيَنْعَقِدُ إلى أن يدرك فالعصف إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ الْوَرَقِ وَالرَّيْحَانُ إِلَى ذَلِكَ الزَّهْرِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُمَا لِأَنَّهُمَا يَؤُولَانِ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلْفَ الدَّوَابِّ، وَمِنَ الْآخَرِ دَوَاءَ الْإِنْسَانِ، وَقُرِئَ الرَّيْحَانُ بِالْجَرِّ مَعْطُوفًا عَلَى الْعَصْفِ، وَبِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى الْحَبِّ وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الرَّيْحَانِ الْمَشْمُومَ فَيَكُونَ أَمْرًا مُغَايِرًا لِلْحَبِّ فَيُعْطَفَ عَلَيْهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ ذُو الرَّيْحَانِ بِحَذْفِ الْمُضَافِ، وإقامة المضاف إليه مقامه كما في: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: ٨٢] وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا، لِيَكُونَ الرَّيْحَانُ الَّذِي خَتَمَ بِهِ أَنْوَاعَ النِّعَمِ الْأَرْضِيَّةِ أَعَزَّ وَأَشْرَفَ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الرَّيْحَانِ هُوَ الْمَعْرُوفَ أَوِ الْمَشْمُومَاتِ لَمَا حَصَلَ ذَلِكَ التَّرْتِيبُ، وَقُرِئَ: وَالرَّيْحانُ وَلَا يَقْرَأُ هَذَا إِلَّا مَنْ يَقْرَأُ: وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَيَعُودُ الوجهان فيه. ثم قال تعالى:

[[سورة الرحمن (٥٥) : آية ١٣]]

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣)

وَفِيهِ مَبَاحِثُ:

الْأَوَّلُ: الْخِطَابُ مَعَ مَنْ؟ نَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: يُقَالُ: الْأَنَامُ اسْمٌ لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ، فَعَادَ الضَّمِيرُ إِلَى مَا فِي الْأَنَامِ مِنَ الجنس ثانيها: الأنام اسم الإنسان والجان لَمَّا كَانَ مَنْوِيًّا وَظَهَرَ مِنْ بَعْدُ بِقَوْلِهِ: وَخَلَقَ الْجَانَّ [الرَّحْمَنِ: ١٥] جَازَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ، وَكَيْفَ لَا وَقَدْ جَازَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَنْوِيِّ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ مِنْهُ شَيْءٌ، تَقُولُ: لَا أَدْرِي أَيَّهُمَا خَيْرٌ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ فِي النِّيَّةِ لَا فِي اللَّفْظِ كَأَنَّهُ قَالَ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ الثَّانِي: الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى. فَعَادَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِمَا وَالْخِطَابُ مَعَهُمَا الثَّالِثُ: فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تُكَذِّبُ، بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَالْمُرَادُ التَّكْرَارُ لِلتَّأْكِيدِ الرَّابِعُ: الْمُرَادُ الْعُمُومُ، لَكِنَّ الْعَامَّ يَدْخُلُ فِيهِ قِسْمَانِ بِهِمَا يَنْحَصِرُ الْكُلُّ وَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنَ الْعَامِّ خَارِجًا عَنْهُ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ مَنْ يَعْقِلُ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ، أَوْ قُلْتَ: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا ظَهَرَ وَمَا لَمْ يَظْهَرْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّقَاسِيمِ الْحَاصِرَةِ يَلْزَمُ التَّعْمِيمُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا الْقِسْمَانِ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَاعْلَمْ أَنَّ التَّقْسِيمَ الْحَاصِرَ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَمْرَيْنِ أَصْلًا وَلَا يَحْصُلُ الْحَصْرُ إِلَّا بِهِمَا، فَإِنْ زَادَ فَهُنَاكَ قِسْمَانِ قَدْ طُوِيَ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ، مِثَالُهُ إِذَا قُلْتَ: اللَّوْنُ إِمَّا سَوَادٌ وَإِمَّا بَيَاضٌ، وَإِمَّا حُمْرَةٌ وَإِمَّا صُفْرَةٌ وَإِمَّا غَيْرُهَا فَكَأَنَّكَ قُلْتَ:

اللَّوْنُ إِمَّا أَسْوَدُ وَإِمَّا لَيْسَ بِسَوَادٍ أَوْ إِمَّا بَيَاضٌ، وَإِمَّا لَيْسَ بِبَيَاضٍ، ثُمَّ الَّذِي لَيْسَ بِبَيَاضٍ إِمَّا حُمْرَةٌ وَإِمَّا لَيْسَ بِحُمْرَةٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>