للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَذَلِكَ إِلَى جُمْلَةِ التَّقْسِيمَاتِ، فَأَشَارَ إِلَى الْقِسْمَيْنِ الْحَاصِرَيْنِ عَلَى أَنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ وَلَا لِشَيْءٍ أَنْ يُنْكِرَ نِعَمَ اللَّهِ الْخَامِسُ: التَّكْذِيبُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَلْبِ دُونَ اللِّسَانِ، كَمَا فِي الْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ يَكُونُ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ كَمَا فِي الْمُعَانِدِينَ وَقَدْ يَكُونُ بِهِمَا جَمِيعًا، فَالْكَذِبُ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ بِاللِّسَانِ أَوْ بِالْقَلْبِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا أَيُّهَا الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَإِنَّ النِّعَمَ بَلَغَتْ حَدًّا لَا يُمْكِنُ الْمُعَانِدُ أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى تَكْذِيبِهَا، السَّادِسُ:

الْمُكَذِّبُ مُكَذِّبٌ بِالرَّسُولِ وَالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ الَّتِي بِالْقُرْآنِ وَمُكَذِّبٌ بِالْعَقْلِ وَالْبَرَاهِينِ وَالَّتِي فِي الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا أَيُّهَا الْمُكَذِّبَانِ بِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، وَقَدْ ظَهَرَتْ آيَاتُ الرِّسَالَةِ فَإِنَّ الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ، وَآيَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ فَإِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَعَلَّمَهُ الْبَيَانَ، وَرَفَعَ السَّمَاءَ وَوَضَعَ الْأَرْضَ السَّابِعُ: الْمُكَذِّبُ قَدْ يَكُونُ مُكَذِّبًا بِالْفِعْلِ وَقَدْ يَكُونُ التَّكْذِيبُ مِنْهُ غَيْرَ وَاقِعٍ بَعْدُ لَكِنَّهُ مُتَوَقَّعٌ فَاللَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا أَيُّهَا الْمُكَذِّبُ تَكْذِبُ وَتَتَلَبَّسُ بِالْكَذِبِ، وَيَخْتَلِجُ فِي صَدْرِكَ أَنَّكَ تَكْذِبُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ قَرِيبَةٌ بَعْضُهَا مِنْ بعض والظاهر منها الثقلان، لذكر هما فِي الْآيَاتِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرحمن: ٣١] ، وبقوله: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الرَّحْمَنِ: ٣٣] وَبِقَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ [الرحمن: ١٤، ١٥] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، (وَالزَّوْجَانِ) لِوُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ كثير وَالتَّعْمِيمُ بِإِرَادَةِ نَوْعَيْنِ حَاصِرَيْنِ لِلْجَمِيعِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: التَّعْمِيمُ أَوْلَى لِأَنَّ الْمُرَادَ لَوْ كَانَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ اللَّذَّانِ خَاطَبَهُمَا بِقَوْلِهِ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مَا كَانَ يَقُولُ بَعْدَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، بَلْ كَانَ يُخَاطِبُ وَيَقُولُ: خَلَقْنَاكَ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مِنْ صَلْصَالٍ وَخَلَقْنَاكَ يَا أَيُّهَا الْجَانُّ أَوْ يَقُولُ: خَلَقَكَ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ/ لِأَنَّ الْكَلَامَ صَارَ خِطَابًا مَعَهُمَا، وَلَمَّا قَالَ الْإِنْسَانُ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ غَيْرُهُ وَهُوَ الْعُمُومُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا الْخَلْقُ وَالسَّامِعُونَ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقْنَا الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ. وَسَيَأْتِي بَاقِي الْبَيَانِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الثَّانِي:

مَا الْحِكْمَةُ فِي الْخِطَابِ وَلَمْ يَسْبِقْ ذِكْرُ مُخَاطَبٍ، نَقُولُ: هُوَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ إِذْ مَبْنَى افْتِتَاحِ السُّورَةِ عَلَى الْخِطَابِ مَعَ كُلِّ مَنْ يَسْمَعُ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن: ١، ٢] قَالَ: اسْمَعُوا أَيُّهَا السَّامِعُونَ، وَالْخِطَابُ لِلتَّقْرِيعِ وَالزَّجْرِ كَأَنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ الْغَافِلَ الْمُكَذِّبَ عَلَى أَنَّهُ يَفْرِضُ نَفْسَهُ كَالْوَاقِفِ بَيْنَ يَدَيِ رَبِّهِ يَقُولُ لَهُ رَبُّهُ: أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ بِكَذَا وَكَذَا، ثُمَّ يَقُولُ: فَبِأَيِّ آلَائِي تُكَذِّبُ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عِنْدَ هَذَا يَسْتَحِي اسْتِحْيَاءً لَا يَكُونُ عِنْدَهُ فَرْضُ الْغَيْبَةِ الثَّالِثُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي اخْتِيَارِ لَفْظَةِ الرَّبِّ وَإِذَا خَاطَبَ أَرَادَ خِطَابَ الْوَاحِدِ فَلِمَ قَالَ:

رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَهُوَ الْحَاضِرُ الْمُتَكَلِّمُ فَكَيْفَ يَجْعَلُ التَّكْذِيبَ الْمُسْنَدَ إِلَى الْمُخَاطَبِ وَارِدًا عَلَى الْغَائِبِ وَلَوْ قَالَ: بِأَيِّ آلَائِي تُكَذِّبَانِ كَانَ أَلْيَقَ فِي الْخِطَابِ؟ نَقُولُ: فِي السُّورَةِ المتقدمة قال: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ [القمر:

٢٣] وكَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ [الْقَمَرِ: ٣٣] وَقَالَ: كَذَّبُوا بِآياتِنا [القمر: ٤٢] وقال: فَأَخَذْناهُمْ [القمر: ٤٢] وَقَالَ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ [الْقَمَرِ: ٢١] كُلُّهَا بِالِاسْتِنَادِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ لِلتَّخْوِيفِ فَاللَّهُ تَعَالَى أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَخْشَى فَلَوْ قَالَ: أَخَذَهُمُ الْقَادِرُ أَوِ الْمُهْلِكُ لَمَا كان في التعظيم مثل قوله:

فَأَخَذْناهُمْ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: ٢٨] وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمَشْهُورَ بِالْقُوَّةِ يَقُولُ أَنَا الَّذِي تَعْرِفُنِي فَيَكُونُ فِي إِثْبَاتِ الْوَعِيدِ فَوْقَ قَوْلِهِ أَنَا الْمُعَذِّبُ فَلَمَّا كَانَ الْإِسْنَادُ إِلَى النَّفْسِ مُسْتَعْمَلًا فِي تِلْكَ السُّورَةِ عِنْدَ الْإِهْلَاكِ وَالتَّعْذِيبِ ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ بَيَانِ الرَّحْمَةِ لَفْظٌ يُزِيلُ الْهَيْبَةَ وَهُوَ لَفْظُ الرَّبِّ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَهُوَ رَبَّاكُمَا الرَّابِعُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَكْرِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَكَوْنِهِ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ مَرَّةً؟

نقول: الجواب عنه من وجوه الأول: أن فَائِدَةَ التَّكْرِيرِ التَّقْرِيرُ وَأَمَّا هَذَا الْعَدَدُ الْخَاصُّ فَالْأَعْدَادُ تَوْقِيفِيَّةٌ لَا تَطَّلِعُ

<<  <  ج: ص:  >  >>