للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَافْتِقَارٍ إِلَى الطَّعَامِ فَلِأَجْلِ تِلْكَ الضَّرُورَةِ نَسِيَ مُوسَى مَا قَالَهُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي فَلَا جَرَمَ قَالَ: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً أَيْ طَلَبْتَ عَلَى عَمَلِكَ أُجْرَةً تَصْرِفُهَا فِي تَحْصِيلِ الْمَطْعُومِ وَتَحْصِيلِ سَائِرِ الْمُهِمَّاتِ، وَقُرِئَ: لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً والتاء في تخذ أَصْلٌ كَمَا فِي تَبِعَ، وَاتَّخَذَ/ افْتَعَلَ مِنْهُ كَقَوْلِنَا اتَّبَعْ مِنْ قَوْلِنَا تَبِعَ، وَاعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ قال العالم: هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ وهاهنا سؤالات. السؤال الأول: قوله: هذا إِشَارَةٌ إِلَى مَاذَا؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ شَرَطَ أَنَّهُ إِنْ سَأَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ سُؤَالًا آخَرَ يَحْصُلُ الْفِرَاقُ حَيْثُ قَالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي فَلَمَّا ذَكَرَ هَذَا السُّؤَالَ فَارَقَهُ ذَلِكَ الْعَالِمُ وَقَالَ: هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ أَيْ هَذَا الْفِرَاقُ الْمَوْعُودُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ هَذَا إِشَارَةً إِلَى السُّؤَالِ الثَّالِثِ أَيْ هَذَا الِاعْتِرَاضُ هُوَ سَبَبُ الْفِرَاقِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ؟ الْجَوَابُ: مَعْنَاهُ هَذَا فِرَاقٌ حَصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَأُضِيفَ الْمَصْدَرُ إِلَى الظَّرْفِ، حَكَى الْقَفَّالُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْبَيْنَ هُوَ الْوَصْلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ فَكَانَ الْمَعْنَى هَذَا فِرَاقُ بَيْنِنَا، أَيِ اتِّصَالُنَا، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَخْزَى اللَّهُ الْكَاذِبَ مِنِّي وَمِنْكَ، أَيْ أَحَدَنَا هَكَذَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ، ثُمَّ قَالَ الْعَالِمُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أَيْ سَأُخْبِرُكَ بِحِكْمَةِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثَةِ، وَأَصْلُ التَّأْوِيلِ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِمْ آلَ الْأَمْرُ إِلَى كَذَا أَيْ صَارَ إِلَيْهِ، فَإِذَا قِيلَ: مَا تَأْوِيلُهُ فَالْمَعْنَى مَا مَصِيرُهُ.

[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢)

فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ الثَّلَاثَةَ مُشْتَرِكَةٌ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ أَحْكَامَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظَّوَاهِرِ كَمَا

قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ»

وَهَذَا الْعَالِمُ مَا كَانَتْ أَحْكَامُهُ مَبْنِيَّةً عَلَى ظَوَاهِرِ الْأُمُورِ بَلْ كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى الْأَسْبَابِ الْحَقِيقِيَّةِ الْوَاقِعَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّصَرُّفُ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ وَفِي أَرْوَاحِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَفِي الثَّانِيَةِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ يُبِيحُ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ لِأَنَّ تَخْرِيقَ السَّفِينَةِ تَنْقِيصٌ لِمِلْكِ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ، وَقَتْلَ الْغُلَامِ تَفْوِيتٌ لِنَفْسٍ مَعْصُومَةٍ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ، وَالْإِقْدَامَ عَلَى إِقَامَةِ ذَلِكَ الْجِدَارِ الْمَائِلِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ تَحَمُّلُ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ، وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ حُكْمُ ذَلِكَ العالم فيها مبنيا عن الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ الْمَعْلُومَةِ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مَبْنِيًّا عَلَى أَسْبَابٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ كَانَ قَدْ آتَاهُ اللَّهُ قُوَّةً عَقْلِيَّةً قَدَرَ بِهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>