للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُسْرِفُوا فَاعْلَمْ أَنَّ لِأَهْلِ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ الْإِسْرَافِ قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: السَّرَفُ تَجَاوُزُ مَا حُدَّ لَكَ. الثَّانِي: قَالَ شِمْرٌ: سَرْفُ الْمَالِ مَا ذَهَبَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَعْطَى كُلَّ مَالِهِ وَلَمْ يُوَصِّلْ إِلَى عِيَالِهِ شَيْئًا فَقَدْ أَسْرَفَ لِأَنَّهُ

جَاءَ فِي الْخَبَرِ، «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» .

وَرُوِيَ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ عَمَدَ إِلَى خَمْسِمِائَةِ نَخْلَةٍ فَجَذَّهَا ثُمَّ قَسَّمَهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُدْخِلْ مِنْهَا إِلَى مَنْزِلِهِ شَيْئًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا أَيْ وَلَا تُعْطُوا كُلَّهُ. وَالثَّانِي: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: لَا تُسْرِفُوا أَيْ لَا تَمْنَعُوا الصَّدَقَةَ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِسْرَافِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ مُجَاوَزَةٌ فِي الْإِعْطَاءِ وَالثَّانِيَ: مُجَاوَزَةٌ فِي الْمَنْعِ. الثَّالِثُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ: لَا تُشْرِكُوا الْأَصْنَامَ فِي الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ بَابِ الْمُجَاوَزَةِ لِأَنَّ مَنْ أَشْرَكَ الْأَصْنَامَ فِي الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ فَقَدْ جَاوَزَ مَا حُدَّ لَهُ. الرَّابِعُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ مَعْنَاهُ: لَا تُنْفِقُوا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ كَانَ أَبُو قُبَيْسٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ رَجُلٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ مُسْرِفًا وَلَوْ أَنْفَقَ دِرْهَمًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَانَ مُسْرِفًا. وَهَذَا الْمَعْنَى أَرَادَهُ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ حِينَ قِيلَ: لَهُ: لَا خَيْرَ فِي السَّرَفِ فَقَالَ لَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِي مَعْنَى السَّرَفِ فَإِنَّ مَنْ أَنْفَقَ/ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَقَدْ أَنْفَقَ فِيمَا لَا نَفْعَ فِيهِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الزَّجْرُ لِأَنَّ كُلَّ مُكَلَّفٍ لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ [الْمَائِدَةِ: ١٨] فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَذَلِكَ يُفِيدُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُحِبُّهُ الله فهو من اهل النار.

[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٤]

وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ إِنْعَامِهِ عَلَى عِبَادِهِ بِالْمَنَافِعِ النَّبَاتِيَّةِ أَتْبَعَهَا بِذِكْرِ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ بِالْمَنَافِعِ الْحَيَوَانِيَّةِ. فَقَالَ: وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «الْوَاوُ» فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً تُوجِبُ الْعَطْفَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ/ مِنْ قوله:

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ [الانعام: ١٤١] وَالتَّقْدِيرُ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَأَنْشَأَ مِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا وَكَثُرَ أَقْوَالُهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْحَمُولَةِ وَالْفَرْشِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى التَّحْصِيلِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَمُولَةَ مَا تَحْمِلُ الْأَثْقَالَ وَالْفَرْشَ مَا يُفْرَشُ لِلذَّبْحِ أَوْ يُنْسَجُ مِنْ وَبَرِهِ وَصُوفِهِ وَشَعْرِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>