ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا عَفَوْتَ فَأَنْتَ مُحْسِنٌ، وَإِذَا كُنْتَ مُحْسِنًا فَقَدْ أَحَبَّكَ اللَّه. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَؤُلَاءِ الْمُحْسِنِينَ هُمُ الْمَعْنِيُّونَ بِقَوْلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ نَقَضُوا عَهْدَ اللَّه، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ صَرْفَ قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَأْمُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي إِلَى غَيْرِ الرَّسُولِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى.
[[سورة المائدة (٥) : آية ١٤]]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)
المراد أَنَّ سَبِيلَ النَّصَارَى مِثْلُ سَبِيلِ الْيَهُودِ فِي نَقْضِ الْمَوَاثِيقِ مِنْ عِنْدِ اللَّه، وَإِنَّمَا قَالَ: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى وَلَمْ يَقُلْ: وَمِنَ النَّصَارَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ بِهَذَا الِاسْمِ ادِّعَاءً لِنُصْرَةِ اللَّه تَعَالَى، وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا لِعِيسَى نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٢] فَكَانَ هَذَا الِاسْمُ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمَ مَدْحٍ، فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ هَذِهِ الصِّفَةَ وَلَكِنَّهُمْ لَيْسُوا مَوْصُوفِينَ بِهَا عِنْدَ اللَّه تَعَالَى، وَقَوْلُهُ أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ أَيْ مَكْتُوبٌ فِي الْإِنْجِيلِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَنْكِيرُ الْحَظِّ فِي الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَظٌّ وَاحِدٌ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَا الْوَاحِدَ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْكَثِيرَ مِمَّا أَمَرَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِهِ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُعَظَّمُ وَالْمُهِمُّ، وَقَوْلُهُ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ أَيْ أَلْصَقْنَا الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ بِهِمْ، يُقَالُ: أُغْرِيَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ إِذَا وَلِعَ بِهِ كَأَنَّهُ أُلْصِقَ بِهِ، وَيُقَالُ: لِمَا الْتَصَقَ بِهِ الشَّيْءُ: الْغِرَاءُ، وَفِي قَوْلِهِ بَيْنَهُمُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَالثَّانِي: بَيْنَ فِرَقِ النَّصَارَى، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ يُكَفِّرُ بَعْضًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الْأَنْعَامِ: ٦٥] وَقَوْلُهُ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ وَعِيدٌ لَهُمْ.
[[سورة المائدة (٥) : آية ١٥]]
يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥)
قوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْيَهُودِ وَعَنِ النَّصَارَى نَقْضَهُمُ الْعَهْدَ وَتَرْكَهُمْ مَا أُمِرُوا بِهِ، دَعَاهُمْ عَقِيبَ ذَلِكَ إِلَى الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يا أَهْلَ الْكِتابِ وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَإِنَّمَا وَحَّدَ الْكِتَابَ لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجِنْسِ، ثُمَّ وَصَفَ الرَّسُولَ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُبَيِّنُ لَهُمْ كَثِيرًا مِمَّا كَانُوا يُخْفُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
أَخْفَوْا صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْفَوْا أَمْرَ الرَّجْمِ، ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ ذَلِكَ لَهُمْ، وَهَذَا مُعْجِزٌ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا وَلَمْ يَتَعَلَّمْ عِلْمًا مِنْ أَحَدٍ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِأَسْرَارِ مَا فِي كِتَابِهِمْ كَانَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا.
الوصف الثاني للرسول: قوله وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أَيْ لَا يُظْهِرُ كَثِيرًا مِمَّا تَكْتُمُونَهُ أَنْتُمْ، وَإِنَّمَا لَمْ يُظْهِرْهُ لِأَنَّهُ