للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَابٍ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، وَقَوْلُهُ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ بَيَانُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَعْتَمِدُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَلَا يَتَقَوَّى إِلَّا بِهِ لِمَا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْقَادِرَ بِالْحَقِيقَةِ لَيْسَ إِلَّا هُوَ، وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : هَذَا بَعْثٌ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالتَّقَوِّي بِهِ فِي أَمْرِهِ حَتَّى يَنْصُرَهُ عَلَى مَنْ كَذَّبَهُ وَتَوَلَّى عَنْهُ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَتَعَلَّقُ مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ بِمَا قَبْلَهُ وَيَتَّصِلُ بِهِ؟ نَقُولُ: يتعلق بقوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [التغابن: ٨] لِمَا أَنَّ مَنْ يُؤْمِنُ باللَّه فَيُصَدِّقُهُ يَعْلَمُ ألا تصيبه مصيبة إلا بإذن اللَّه. ثم قال تعالى:

[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ١٤ الى ١٦]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦)

قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ الْهِجْرَةَ تَعَلَّقَ بِهِ بَنُوهُ وَزَوْجَتُهُ فَقَالُوا: أَنْتَ تذهب وتذرنا ضائعين فمنهم من يطيع أهل وَيُقِيمُ فَحَذَّرَهُمُ اللَّه طَاعَةَ نِسَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُطِيعُ وَيَقُولُ: أَمَا واللَّه لَوْ لَمْ نُهَاجِرْ وَيَجْمَعِ اللَّه بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ لَا نَنْفَعُكُمْ شَيْئًا أَبَدًا، فَلَمَّا جَمَعَ اللَّه بَيْنَهُمْ أَمَرَهُمْ أَنْ يُنْفِقُوا وَيُحْسِنُوا وَيَتَفَضَّلُوا، وَقَالَ مُسْلِمٌ الْخُرَاسَانِيُّ: نَزَلَتْ فِي عَوْفِ بن مالك الأشجعي كان أهل وَوَلَدُهُ يُثَبِّطُونَهُ عَنِ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا وَأَرَادُوا أَنْ يَأْتُوا الْمَدِينَةَ فَلَمْ يَدَعْهُمْ أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ فَهُوَ قَوْلُهُ: عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ أَنْ تُطِيعُوا وَتَدَعُوا الْهِجْرَةَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا قَالَ هُوَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ هَؤُلَاءِ إِذَا هَاجَرَ وَرَأَى النَّاسَ قَدْ سَبَقُوا بِالْهِجْرَةِ وَفَقِهُوا فِي الدِّينِ هَمَّ أَنْ يُعَاقِبَ زَوْجَتَهُ وَوَلَدَهُ الَّذِينَ مَنَعُوهُ الْهِجْرَةَ وَإِنْ لَحِقُوا بِهِ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُصِبْهُمْ بِخَيْرٍ فَنَزَلَ: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا الْآيَةَ، يَعْنِي أَنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ، يَنْهَوْنَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَيُثَبِّطُونَ عَنْهُ وَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ فَاحْذَرُوهُمْ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الْعَدَاوَةَ إِنَّمَا هِيَ لِلْكُفْرِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْإِيمَانِ، وَلَا تَكُونُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمُ الْمُؤْمِنُونَ لَا يَكُونُونَ عَدُوًّا لَهُمْ، وَفِي هَؤُلَاءِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ الذين منعوا عن الهجرة نزل: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لَا تُطِيعُوهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّه تعالى وفتنة أَيْ بَلَاءٌ وَشُغْلٌ عَنِ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: أَعْلَمَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ مِنْ جَمِيعِ مَا يَقَعُ بِهِمْ فِي الْفِتْنَةِ وَهَذَا عَامٌّ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَوْلَادِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَفْتُونٌ بِوَلَدِهِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا عَصَى اللَّه تَعَالَى بِسَبَبِهِ وَبَاشَرَ الْفِعْلَ الْحَرَامَ لِأَجْلِهِ، كَغَصْبِ مَالِ الْغَيْرِ وَغَيْرِهِ: اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ

أَيْ جَزِيلٌ، وَهُوَ الْجَنَّةُ أَخْبَرَ أَنَّ عِنْدَهُ أَجْرًا عَظِيمًا لِيَتَحَمَّلُوا الْمَؤُونَةَ الْعَظِيمَةَ، وَالْمَعْنَى لَا تُبَاشِرُوا الْمَعَاصِيَ بِسَبَبِ الْأَوْلَادِ وَلَا تُؤْثِرُوهُمْ عَلَى مَا عِنْدَ اللَّه مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ قَالَ مُقَاتِلٌ: أَيْ مَا أَطَقْتُمْ يَجْتَهِدُ الْمُؤْمِنُ فِي تَقْوَى اللَّه مَا اسْتَطَاعَ، قَالَ قَتَادَةُ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَوْلَهُ تَعَالَى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٠٢] وَمِنْهُمْ مَنْ طَعَنَ فِيهِ وَقَالَ: لَا يَصِحُّ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ لَا يُرَادُ بِهِ الِاتِّقَاءُ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُونَ لِأَنَّهُ فَوْقَ الطاقة والاستطاعة، وقوله: اسْمَعُوا أَيْ للَّه وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَقِيلَ: لِمَا أَمَرَكُمُ اللَّه وَرَسُولُهُ بِهِ وَأَطِيعُوا اللَّه فِيمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>