للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِأَنَّ الْعَالَمَ لَمَّا كَانَ خَلَقَهُ بِالْحَقِّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ حَيَاةٌ أُخْرَى بَاقِيَةٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ لَيْسَتْ إِلَّا لَعِبًا ولهوا كما بين بقوله تَعَالَى: وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ [العنكبوت: ٦٤] وخلق السموات وَالْأَرْضِ لِلَّهْوِ وَاللَّعِبِ عَبَثٌ، وَالْعَبَثُ لَيْسَ بِحَقٍّ وخلق السموات وَالْأَرْضِ بِالْحَقِّ فَلَا بُدَّ مِنْ حَيَاةٍ بَعْدَ هذه.

المسألة الثالثة: قال هاهنا: كَثِيراً مِنَ النَّاسِ وَقَالَ مِنْ قَبْلُ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ [الروم: ٦] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ قَبْلُ لَمْ يَذْكُرْ دَلِيلًا على الأصلين، وهاهنا قَدْ ذَكَرَ الدَّلَائِلَ الْوَاضِحَةَ وَالْبَرَاهِينَ اللَّائِحَةَ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ بَعْدَ الدَّلِيلِ أَكْثَرُ مِنَ الْإِيمَانِ قَبْلَ الدَّلِيلِ، فَبَعْدَ الدَّلَائِلِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُؤْمِنَ مِنْ ذَلِكَ الْأَكْثَرِ جَمْعٌ فَلَا يَبْقَى الْأَكْثَرُ كَمَا هُوَ، فَقَالَ بَعْدَ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ وَإِنَّ كَثِيراً وَقَبْلَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ «١» ثُمَّ بَعْدَ الدَّلِيلِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الذُّهُولُ عَنْهُ، وَالدَّلِيلِ الَّذِي لَا يَقَعُ الذُّهُولُ عَنْهُ وإن أمكن هو السموات وَالْأَرْضُ لِأَنَّ مِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يَذْهَلَ الْإِنْسَانُ عَنِ السَّمَاءِ الَّتِي فَوْقَهُ وَالْأَرْضِ الَّتِي تَحْتَهُ، ذكر مَا يَقَعُ الذُّهُولُ عَنْهُ وَهُوَ أَمْرُ أَمْثَالِهِمْ وحكاية أشكالهم. / فقال تعالى:

[[سورة الروم (٣٠) : آية ٩]]

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩)

وَقَالَ فِي الدَّلِيلَيْنِ المتقدمين: أَوَلَمْ يَرَوْا [العنكبوت: ١٩، ٦٧] وَلَمْ يَقُلْ: أَوَلَمْ يَسِيرُوا إِذْ لَا حَاجَةَ هُنَاكَ إِلَى السَّيْرِ بِحُضُورِ النَّفْسِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وقال هاهنا: أَوَلَمْ يَسِيرُوا ... فَيَنْظُرُوا ذَكَّرَهُمْ بِحَالِ أَمْثَالِهِمْ وَوَبَالِ أَشْكَالِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ أَوْلَى بِالْهَلَاكِ لِأَنَّ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ عَادٍ وَثَمُودَ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَلَمْ تَنْفَعْهُمْ قُوَاهُمْ وَكَانُوا أَكْثَرَ مَالًا وَعِمَارَةً، وَلَمْ يَمْنَعْ عَنْهُمُ الْهَلَاكَ أَمْوَالُهُمْ وَحُصُونُهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ اعْتِمَادَ الْإِنْسَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ قُوَّةٌ جِسْمِيَّةٌ فِيهِ أَوْ فِي أَعْوَانِهِ إِذْ بِهَا المباشرة وقوة مالية إذ بِهَا التَّأَهُّبُ لِلْمُبَاشَرَةِ، وَقُوَّةٌ ظَهْرِيَّةٌ يَسْتَنِدُ إِلَيْهَا عِنْدَ الضَّعْفِ وَالْفُتُورِ وَهِيَ بِالْحُصُونِ وَالْعَمَائِرِ، فَقَالَ تَعَالَى: كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً فِي الْجِسْمِ وَأَكْثَرَ مِنْهُمْ مَالًا لِأَنَّهُمْ أَثَارُوا الْأَرْضَ أَيْ حَرَثُوهَا، وَمِنْهُ بَقَرَةٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ، وَقِيلَ مِنْهُ سُمِّيَ ثَوْرًا، وَأَنْتُمْ لَا حِرَاثَةَ لَكُمْ فَأَمْوَالُهُمْ كَانَتْ أَكْثَرَ، وَعِمَارَتُهُمْ كَانَتْ أَكْثَرَ لِأَنَّ أَبْنِيَتَهُمْ كانت رفعية وَحُصُونُهُمْ مَنِيعَةً، وَعِمَارَةُ أَهْلِ مَكَّةَ كَانَتْ يَسِيرَةً ثُمَّ هَؤُلَاءِ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَأَمَرُوهُمْ وَنَهَوْهُمْ، فَلَمَّا كَذَّبُوا أُهْلِكُوا فَكَيْفَ أَنْتُمْ، وَقَوْلُهُ: فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ يَعْنِي لَمْ يَظْلِمْهُمْ بِالتَّكْلِيفِ، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ شَرِيفٌ لَا يُؤْثَرُ لَهُ إِلَّا مَحَلٌّ شَرِيفٌ وَلَكِنْ هُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِوَضْعِهَا فِي مَوْضِعٍ خَسِيسٍ، وَهُوَ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ وَاتِّبَاعُ إِبْلِيسَ، فَكَأَنَّ اللَّهَ بِالتَّكْلِيفِ وَضَعَهُمْ فِيمَا خُلِقُوا لَهُ وَهُوَ الرِّبْحُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ خَلَقْتُكُمْ لِتَرْبَحُوا عَلَيَّ لَا لِأَرْبَحَ عَلَيْكُمْ، وَالْوَضْعُ فِي [أَيِّ] مَوْضِعٍ كَانَ الْخَلْقُ لَهُ لَيْسَ بِظُلْمٍ، وَأَمَّا هُمْ فَوَضَعُوا أَنْفُسَهُمْ فِي مَوَاضِعِ الْخُسْرَانِ وَلَمْ يَكُونُوا خُلِقُوا إِلَّا لِلرِّبْحِ فَهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ، وَهَذَا الْكَلَامُ مِنَّا وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ يُشْبِهُ كَلَامَ الْمُعْتَزِلَةِ لَكِنَّ الْعَاقِلَ يَعْلَمُ كَيْفَ يَقُولُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْوَضْعَ كَانَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ، لَكِنَّهُ كَانَ منهم ومضافا إليهم. ثم قال تعالى:

[[سورة الروم (٣٠) : آية ١٠]]

ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠)

كَمَا قَالَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى [يُونُسَ: ٢٦] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ كَذَّبُوا قِيلَ مَعْنَاهُ بِأَنْ كَذَّبُوا أي


(١) في تفسير الرازي المطبوع (أكثرهم) وهو خطأ وما أثبتناه هو الصواب.

<<  <  ج: ص:  >  >>