قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ: حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً [الجن: ٢٤] قال النضر بن الحرث: مَتَى يَكُونُ هَذَا الَّذِي تُوعِدُنَا بِهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ إِلَى آخِرِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّ وُقُوعَهُ مُتَيَقَّنٌ، أَمَّا وَقْتُ وُقُوعِهِ فَغَيْرُ مَعْلُومٍ، وَقَوْلُهُ: أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً أَيْ غَايَةً وَبُعْدًا وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٠٩] فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ
قَالَ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ»
فَكَانَ عَالِمًا بقرب وقوع القيامة، فكيف قال: هاهنا لَا أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ؟ قُلْنَا:
الْمُرَادُ بِقُرْبِ وُقُوعِهِ هُوَ أَنَّ مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا أَقَلُّ مِمَّا انْقَضَى، فَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْقُرْبِ مَعْلُومٌ، / وَأَمَّا مَعْنَى مَعْرِفَةِ الْقُرْبِ الْقَرِيبِ وعدم ذلك فغير معلوم.
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ لَفْظَةُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ:
مِنْ رَسُولٍ تَبْيِينٌ لِمَنِ ارْتَضَى يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَى الْغَيْبِ إِلَّا الْمُرْتَضَى الَّذِي يَكُونُ رَسُولًا، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، وَفِي هَذَا إِبْطَالُ الْكَرَامَاتِ لِأَنَّ الَّذِينَ تُضَافُ الْكَرَامَاتُ إِلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا أَوْلِيَاءَ مُرْتَضِينَ فَلَيْسُوا بِرُسُلٍ، وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ الرُّسُلَ مِنْ بَيْنِ الْمُرْتَضِينَ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ، وَفِيهَا أَيْضًا إِبْطَالُ الْكِهَانَةِ وَالسِّحْرِ وَالتَّنْجِيمِ لِأَنَّ أَصْحَابَهَا أَبْعَدُ شَيْءٍ مِنَ الِارْتِضَاءِ وَأَدْخَلُهُ فِي السَّخَطِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنِ ادَّعَى أَنَّ النُّجُومَ تَدُلُّهُ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ حَيَاةٍ أَوْ مَوْتٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَاحِدِيَّ يُجَوِّزُ الْكَرَامَاتِ وَأَنْ يُلْهِمَ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ وُقُوعَ بَعْضِ الْوَقَائِعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَنِسْبَةُ الْآيَةِ إِلَى الصُّورَتَيْنِ وَاحِدَةٌ فَإِنْ جَعَلَ الْآيَةَ دَالَّةً عَلَى الْمَنْعِ مِنَ أَحْكَامِ النُّجُومِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَهَا دَالَّةً عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْكَرَامَاتِ عَلَى مَا قَالَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْإِلْهَامَاتِ الْحَاصِلَةِ لِلْأَوْلِيَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجْعَلَهَا دَالَّةً عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الدَّلَائِلِ النُّجُومِيَّةِ، فَأَمَّا التحكيم بِدَلَالَتِهَا عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْأَحْكَامِ النُّجُومِيَّةِ وَعَدَمِ دَلَالَتِهَا عَلَى الْإِلْهَامَاتِ الْحَاصِلَةِ لِلْأَوْلِيَاءِ فَمُجَرَّدُ التَّشَهِّي، وَعِنْدِي أَنَّ الْآيَةَ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى شَيْءٍ مِمَّا قَالُوهُ وَالَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ: عَلى غَيْبِهِ لَيْسَ فِيهِ صِيغَةُ عُمُومٍ فَيَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يُظْهِرَ تَعَالَى خَلْقَهُ عَلَى غَيْبٍ وَاحِدٍ مِنْ غُيُوبِهِ فَنَحْمِلَهُ عَلَى وَقْتِ وُقُوعِ الْقِيَامَةِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُظْهِرُ هَذَا الْغَيْبَ لِأَحَدٍ فَلَا يَبْقَى فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُظْهِرُ شَيْئًا مِنَ الْغُيُوبِ لِأَحَدٍ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ عَقِيبَ قَوْلِهِ: إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً [الجن: ٢٥] يَعْنِي لَا أَدْرِي وَقْتَ وُقُوعِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً أَيْ وَقْتَ وُقُوعِ الْقِيَامَةِ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يُظْهِرُهُ اللَّهُ لِأَحَدٍ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ: عَلى غَيْبِهِ لَفْظٌ مُفْرَدٌ مُضَافٌ، فَيَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِهِ حَمْلُهُ عَلَى غَيْبٍ وَاحِدٍ، فَأَمَّا الْعُمُومُ فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا حَمَلْتُمْ ذَلِكَ عَلَى الْقِيَامَةِ فَكَيْفَ قَالَ: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ مَعَ أَنَّهُ لَا يُظْهِرُ هَذَا الْغَيْبَ لِأَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ؟ قُلْنَا: بَلْ يُظْهِرُهُ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ إِقَامَةِ الْقِيَامَةِ، وَكَيْفَ لَا وَقَدْ قَالَ: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الْفُرْقَانِ: ٢٥] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَعْلَمُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قِيَامَ الْقِيَامَةِ، وَأَيْضًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا، كَأَنَّهُ قَالَ: عَالِمُ الغيب فلا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute