التَّجَاوُزَ عَنِ الْوَعِيدِ مُسْتَحْسَنٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنِّي إِذَا أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي
بَلِ الْإِصْرَارُ عَلَى تَحْقِيقِ الْوَعِيدِ كَأَنَّهُ يُعَدُّ لُؤْمًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَصْلُحَ مِنَ اللَّهِ تعالى، وهذا بناءً على حرف وهو أَهْلَ السُّنَّةِ جَوَّزُوا نَسْخَ الْفِعْلِ قَبْلَ مُدَّةِ الِامْتِثَالِ وَحَاصِلُ حُرُوفِهِمْ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ يُسَنُّ تَارَةً لِحِكْمَةٍ تَنْشَأُ مِنْ نَفْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَتَارَةً لِحِكْمَةٍ تَنْشَأُ مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ السَّيِّدَ قَدْ يَقُولُ لِعَبْدِهِ افْعَلِ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ غَدًا وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ فِي الْحَالِ أَنَّهُ سَيَنْهَاهُ عَنْهُ غَدًا، وَيَكُونُ مَقْصُودُهُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ أَنْ يُظْهِرَ الْعَبْدُ الِانْقِيَادَ لِسَيِّدِهِ فِي ذَلِكَ وَيُوَطِّنَ نَفْسَهُ عَلَى طَاعَتِهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا عَلِمَ اللَّهُ مِنَ الْعَبْدِ أَنَّهُ سَيَمُوتُ غَدًا فَإِنَّهُ يَحْسُنُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ يَقُولَ: صَلِّ غَدًا إِنْ عِشْتَ، وَلَا يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ تَحْصِيلَ الْمَأْمُورِ بِهِ، لِأَنَّهُ هاهنا مُحَالٌ بَلِ الْمَقْصُودُ حِكْمَةٌ تَنْشَأُ مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ فَقَطْ، وَهُوَ حُصُولُ الِانْقِيَادِ وَالطَّاعَةِ وَتَرْكُ التَّمَرُّدِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْخَبَرُ أَيْضًا كَذَلِكَ؟ فَتَارَةً يَكُونُ مَنْشَأُ الْحِكْمَةِ مِنَ الْأَخْبَارِ هُوَ الشَّيْءَ الْمُخْبَرَ عَنْهُ وَذَلِكَ فِي الْوَعْدِ، وَتَارَةً يَكُونُ مَنْشَأُ الْحِكْمَةِ هُوَ نَفْسَ الْخَبَرِ لَا الْمُخْبَرَ عَنْهُ كَمَا فِي الْوَعِيدِ، فَإِنَّ الْأَخْبَارَ عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ مِمَّا يُفِيدُ الزَّجْرَ عَنِ الْمَعَاصِي وَالْإِقْدَامَ عَلَى الطَّاعَاتِ، فَإِذَا حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ جَازَ أَنْ لَا يُوجَدَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ كَمَا فِي الْوَعِيدِ، وَعِنْدَ هَذَا قَالُوا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بِالثَّوَابِ حَقٌّ لَازِمٌ، وَأَمَّا تَوَعُّدُهُ بِالْعِقَابِ فَغَيْرُ لَازِمٍ، وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهِ صَلَاحُ الْمُكَلَّفِينَ مَعَ رَحْمَتِهِ الشَّامِلَةِ لَهُمْ، كَالْوَالِدِ يُهَدِّدُ وَلَدَهُ/ بِالْقَتْلِ وَالسَّمْلِ وَالْقَطْعِ وَالضَّرْبِ، فَإِنْ قَبِلَ الْوَلَدُ أَمْرَهُ فَقَدِ انْتَفَعَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَمَا فِي قَلْبِ الْوَالِدِ مِنَ الشَّفَقَةِ يَرُدُّهُ عَنْ قَتْلِهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ يَكُونُ ذَلِكَ كَذِبًا وَالْكَذِبُ قَبِيحٌ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ كَذِبٍ قَبِيحٌ بَلِ الْقَبِيحُ هُوَ الْكَذِبُ الضَّارُّ، فَأَمَّا الْكَذِبُ النَّافِعُ فَلَا، ثُمَّ إِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ كَذِبٌ، أَلَيْسَ أَنَّ جَمِيعَ عُمُومَاتِ الْقُرْآنِ مَخْصُوصَةٌ وَلَا يُسَمَّى ذَلِكَ كَذِبًا، أَلَيْسَ أَنَّ كُلَّ الْمُتَشَابِهَاتِ مَصْرُوفَةٌ عَنْ ظَوَاهِرِهَا، وَلَا يُسَمَّى ذلك كذباً فكذا هاهنا. وَثَالِثُهَا: أَلَيْسَ أَنَّ آيَاتِ الْوَعِيدِ فِي حَقِّ الْعُصَاةِ مَشْرُوطَةٌ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الشَّرْطُ مَذْكُورًا فِي صَرِيحِ النَّصِّ، فَهِيَ أَيْضًا عِنْدَنَا مَشْرُوطَةٌ بِعَدَمِ الْعَفْوِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الشَّرْطُ مَذْكُورًا بِصَرِيحِ النَّصِّ صَرِيحًا، أَوْ نَقُولُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَاصِيَ يَسْتَحِقُّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ مِنَ الْعِقَابِ فَيُحْمَلُ الْإِخْبَارُ عَنِ الْوُقُوعِ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ اسْتِحْقَاقِ الْوُقُوعِ فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يُقَالُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَذْهَبِ. وَأَمَّا الَّذِينَ أَثْبَتُوا وُقُوعَ الْعَذَابِ، فَقَالُوا إِنَّهُ نُقِلَ إِلَيْنَا عَلَى سَبِيلِ التَّوَاتُرِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُقُوعُ الْعَذَابِ فَإِنْكَارُهُ يَكُونُ تَكْذِيبًا لِلرَّسُولِ وَأَمَّا الشُّبَهُ الَّتِي تَمَسَّكْتُمْ بِهَا فِي نَفْيِ الْعِقَابِ فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا نَقُولُ بِهِ والله أعلم.
[[سورة البقرة (٢) : آية ٨]]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨)
اعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي وَصْفِ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا: وَصَفَ اللَّهُ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فَبَدَأَ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ صَحَّتْ سَرَائِرُهُمْ وَسَلِمَتْ ضَمَائِرُهُمْ، ثُمَّ أَتْبَعَهُمْ بِالْكَافِرِينَ الَّذِينَ مِنْ صِفَتِهِمُ الْإِقَامَةُ عَلَى الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ، ثُمَّ وَصَفَ حَالَ مَنْ يَقُولُ بِلِسَانِهِ إِنَّهُ مُؤْمِنٌ وَضَمِيرُهُ يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute