إِلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ وَأَعْظَمِ النِّهَايَاتِ، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً وَلَمَّا وَصَفَ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ ضَلَالِهِمْ ذَكَرَ بَعْدَهُ وَعِيدَهُمْ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا مُحَمَّدًا بِكِتْمَانِ ذِكْرِ بِعْثَتِهِ وَظَلَمُوا عَوَامَّهُمْ بِإِلْقَاءِ الشُّبَهَاتِ فِي قُلُوبِهِمْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّا إِنْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى إِضْمَارِ شَرْطٍ فِي هَذَا الْوَعِيدِ، لِأَنَّا نَحْمِلُ الْوَعِيدَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَقْوَامٍ عَلِمَ اللَّه مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ أَضْمَرْنَا فِيهِ شَرْطَ عَدَمِ التَّوْبَةِ، ثُمَّ قَالَ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَهْدِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ بَلْ يَهْدِيهِمْ إِلَى طَرِيقِ جَهَنَّمَ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً انْتَصَبَ خَالِدِينَ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى لَا لِيَهْدِيَهُمْ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نُعَاقِبُهُمْ خَالِدِينَ، وَانْتَصَبَ أَبَداً عَلَى الظَّرْفِ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّه يَسِيرًا، وَالْمَعْنَى لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَكَانَ إِيصَالُ الْأَلَمِ إِلَيْهِمْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ يَسِيرًا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَذِّرًا عَلَى غَيْرِهِ.
[[سورة النساء (٤) : آية ١٧٠]]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَجَابَ عَنْ شُبْهَةِ الْيَهُودِ عَلَى الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ وَبَيَّنَ فَسَادَ طَرِيقَتِهِمْ ذَكَرَ خِطَابًا عَامًّا يَعُمُّهُمْ وَيَعُمُّ غَيْرَهُمْ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى دِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ وَهَذَا الْحَقُّ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ جَاءَ بِالْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ مُعْجِزٌ فَيَلْزَمُ أَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّهِ. وَالثَّانِي:
أَنَّهُ جَاءَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّه وَالْإِعْرَاضِ عَنْ غَيْرِهِ، وَالْعَقْلُ/ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَقُّ، فَيَلْزَمُ أَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ يَعْنِي فَآمِنُوا يَكُنْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ خَيْرًا لَكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، أَيْ أَحْمَدَ عَاقِبَةً مِنَ الْكُفْرِ، وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّه غني عن إيمانكم لأنه مالك السموات وَالْأَرْضِ وَخَالِقُهُمَا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إِلَى شَيْءٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: فإن للَّه ما في السموات وَالْأَرْضِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِنْزَالِ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَلَيْكُمْ لَوْ كَفَرْتُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَنَّكُمْ إِنْ كَفَرْتُمْ فَلَهُ ملك السموات وَالْأَرْضِ وَلَهُ عَبِيدٌ يَعْبُدُونَهُ وَيَنْقَادُونَ لِأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أَيْ عَلِيمًا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ عباده المؤمنين والكافرين شيء، وحكيما لَا يَضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْهُمْ وَلَا يُسَوِّي بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْمُسِيءِ وَالْمُحْسِنِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: ٢٨] .
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٧١ الى ١٧٣]
يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣)