للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَبْعَثَهُ تَعَالَى إِلَّا مَعَ كَمَالِهِ فِي الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ وَالْعِلْمِ بِالتَّوْحِيدِ وَقَوْلُهُ: فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً كَالتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مِنْ خَلْقِ اللَّه تَعَالَى، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْأَلْطَافُ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا لِأَنَّ الْأَلْطَافَ مَفْعُولَةٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ وَلَا تَقْصِيرٍ، فَالتَّخْصِيصُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ فَائِدَةٍ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ فَهُوَ جَوَابُ قَوْلِهِ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشعراء: ١٨] ويقال عَبَّدْتُ الرَّجُلَ وَأَعْبَدْتُهُ إِذَا اتَّخَذْتُهُ عَبْدًا، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ جَوَابَهُ وَلَا تَعَلُّقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؟ قُلْنَا بَيَانُ التَّعَلُّقِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي يَدِهِ وَفِي تَرْبِيَتِهِ لِأَنَّهُ قَصَدَ تَعْبِيدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَذَبْحَ أَبْنَائِهِمْ، فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُ كُنْتُ مُسْتَغْنِيًا عَنْ تَرْبِيَتِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْكَ ذَلِكَ الظُّلْمُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَسْلَافِنَا وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا الْإِنْعَامَ الْمُتَأَخِّرَ صَارَ مُعَارَضًا بِذَلِكَ الظُّلْمِ الْعَظِيمِ عَلَى أَسْلَافِنَا وَإِذَا تَعَارَضَا تَسَاقَطَا وَثَالِثُهَا: مَا قَالَهُ الْحَسَنُ: أَنَّكَ اسْتَعْبَدْتَهُمْ وَأَخَذْتَ أَمْوَالَهُمْ وَمِنْهَا أَنْفَقْتَ عَلَيَّ فَلَا نِعْمَةَ لَكَ بِالتَّرْبِيَةِ وَرَابِعُهَا: الْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي تَوَلَّى تَرْبِيَتِي هُمُ الَّذِينَ قَدِ اسْتَعْبَدْتَهُمْ فَلَا نِعْمَةَ لَكَ عَلَيَّ لِأَنَّ التَّرْبِيَةَ كَانَتْ مِنْ قِبَلِ أُمِّي وَسَائِرِ مَنْ هُوَ مِنْ قَوْمِي لَيْسَ لَكَ إِلَّا أَنَّكَ مَا قَتَلْتَنِي، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَعُدُّ إِنْعَامًا وَخَامِسُهَا: أَنَّكَ كُنْتَ تَدَّعِي أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَبِيدُكَ وَلَا مِنَّةَ لِلْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ فِي أَنْ يُطْعِمَهُ وَيُعْطِيَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ كُفْرَ الْكَافِرِ لَا يُبْطِلُ نِعْمَتَهُ عَلَى مَنْ يُحْسِنُ إِلَيْهِ وَلَا يُبْطِلُ مِنَّتَهُ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا أَبْطَلَ ذَلِكَ بِوَجْهٍ آخَرَ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِذَا كَانَ كَافِرًا لَا يَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ عَلَى نِعَمِهِ عَلَى النَّاسِ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْإِهَانَةَ بِكُفْرِهِ، فَلَوِ اسْتَحَقَّ الشُّكْرَ بِإِنْعَامِهِ وَالشُّكْرُ لَا يُوجَدُ إِلَّا مَعَ التَّعْظِيمِ فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ مُسْتَحِقًّا لِلْإِهَانَةِ وَلِلتَّعْظِيمِ مَعًا، وَاسْتِحْقَاقُ الْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ مُحَالٌ، وَقَالَ آخَرُونَ لَا يَبْطُلُ الشُّكْرُ بِالْكُفْرِ وَإِنَّمَا يَبْطُلُ بِالْكُفْرِ الثَّوَابُ وَالْمَدْحُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي.

المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِنَّمَا جمع الضمير في مِنْكُمْ وخِفْتُكُمْ مع إفراده في تَمُنُّها وعَبَّدْتَ لِأَنَّ الْخَوْفَ وَالْفِرَارَ لَمْ يَكُونَا مِنْهُ وَحْدَهُ ولكن منه ومن ملائه الْمُؤْتَمِرِينَ بِقَتْلِهِ، بِدَلِيلِ/ قَوْلِهِ: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [القصص: ٢٠] وَأَمَّا الِامْتِنَانُ فَمِنْهُ وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ التَّعْبِيدُ، فَإِنْ قلت:

تِلْكَ إشارة إلى ماذا وأَنْ عَبَّدْتَ مَا مَحَلُّهَا مِنَ الْإِعْرَابِ؟ قُلْتُ: (تِلْكَ) إِشَارَةٌ إِلَى خَصْلَةٍ شَنْعَاءَ مُبْهَمَةٍ لَا يُدْرَى مَا هِيَ إِلَّا بِتَفْسِيرِهَا وَهِيَ أَنْ عَبَّدْتَ فَإِنَّ أَنْ عَبَّدْتَ عَطْفُ بَيَانٍ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الْحِجْرِ: ٦٦] وَالْمَعْنَى تَعْبِيدُكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (أَنْ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالْمَعْنَى إِنَّمَا صَارَتْ نِعْمَةً عَلَيَّ، لِأَنَّ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْ لَوْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ لَكَفَانِي أهلي.

[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٣ الى ٣١]

قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧)

قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١)

<<  <  ج: ص:  >  >>