مَنْ يَتَّبِعُ الذِّكْرَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ بِإِنْذَارِكَ تَهْدِي وَلَا تَدْرِي مَنْ تَهْدِي فَأَنْذِرِ الْأَسْوَدَ وَالْأَحْمَرَ وَمَقْصُودُكَ مَنْ يَتَّبِعُ إِنْذَارَكَ وَيَنْتَفِعُ بِذِكْرَاكَ الثَّالِثُ: هُوَ أَنْ نَقُولَ قَوْلُهُ: لِتُنْذِرَ أَيْ أَوَّلًا فَإِذَا أَنْذَرْتَ وَبَالَغْتَ وَبَلَّغْتَ وَاسْتَهْزَأَ الْبَعْضُ وَتَوَلَّى وَاسْتَكْبَرَ وَوَلَّى، فَأَعْرِضْ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الثَّالِثِ إِنَّكَ تُنْذِرُ الْكُلَّ بِالْأُصُولِ، وَإِنَّمَا تُنْذِرُ بِالْفُرُوعِ مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَآمَنَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ مَنِ اتَّبَعَ الْقُرْآنَ الثَّانِي: مَنِ اتَّبَعَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْآيَاتِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: ١] فَمَا جَعَلَ الْقُرْآنَ نَفْسَ الذِّكْرِ الثَّالِثُ: مَنِ اتَّبَعَ الْبُرْهَانَ فَإِنَّهُ ذِكْرٌ يُكْمِلُ الْفِطْرَةَ وَعَلَى كُلِّ وَجْهٍ فَمَعْنَاهُ: إِنَّمَا تُنْذِرُ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: ٢٨] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [البقرة: ٨٢] فَقَوْلُهُ: اتَّبَعَ الذِّكْرَ أَيْ آمَنَ، وَقَوْلُهُ: وَخَشِيَ الرَّحْمنَ أَيْ عَمِلَ صَالِحًا وَهَذَا الْوَجْهُ يَتَأَيَّدُ بِقَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ لِأَنَّا ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ الْغُفْرَانَ جَزَاءُ الْإِيمَانِ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مَغْفُورٌ وَالْأَجْرُ الْكَرِيمُ جَزَاءُ الْعَمَلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [سَبَأٍ: ٤] وَتَفْسِيرُ الذِّكْرِ بِالْقُرْآنِ يَتَأَيَّدُ بِتَعْرِيفِ الذِّكْرِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: ٢] وَقَوْلُهُ: وَخَشِيَ الرَّحْمنَ فِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ الرَّحْمَةَ تُورِثُ الِاتِّكَالَ وَالرَّجَاءَ فَقَالَ مَعَ أَنَّهُ رَحْمَنٌ وَرَحِيمٌ فَالْعَاقِلُ/ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ الْخَشْيَةَ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَتْ نِعْمَتُهُ بِسَبَبِ رَحْمَتِهِ أَكْثَرَ فَالْخَوْفُ مِنْهُ أَتَمُّ مَخَافَةَ أَنْ يقطع عنه النعم المتواترة وتكملة اللطيفة: هي أَنَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ اسْمَيْنِ يَخْتَصَّانِ بِهِ هُمَا اللَّهُ وَالرَّحْمَنُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الْإِسْرَاءِ: ١١٠] حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ:
هُمَا عَلَمَانِ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاللَّهُ اسْمٌ يُنْبِئُ عَنِ الْهَيْبَةِ وَالرَّحْمَنُ ينبئ عن العاطفية فقال في موضع يَرْجُوا اللَّهَ [الأحزاب: ٢١] وقال هاهنا: وَخَشِيَ الرَّحْمنَ يَعْنِي مَعَ كَوْنِهِ ذَا هَيْبَةٍ لَا تَقْطَعُوا عَنْهُ رَجَاءَكُمْ وَمَعَ كَوْنِهِ ذَا رَحْمَةٍ لَا تَأْمَنُوهُ، وَقَوْلُهُ: بِالْغَيْبِ يَعْنِي بِالدَّلِيلِ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى دَرَجَةِ الْمَرْئِيِّ الْمُشَاهَدِ فَإِنَّ عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَةِ لَا يَبْقَى لِلْخَشْيَةِ فَائِدَةٌ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَيْبِ مَا غَابَ عَنَّا وَهُوَ أَحْوَالُ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ إِنَّ الْوَحْدَانِيَّةَ تَدْخُلُ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: فَبَشِّرْهُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَمْرِ الثَّانِي مِنْ أَمْرَيِ الرِّسَالَةِ فإن النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ أُرْسِلَ لِيُنْذِرَ وَذَكَرَ أَنَّ الْإِنْذَارَ النَّافِعَ عِنْدَ اتِّبَاعِ الذِّكْرِ، فَقَالَ بَشِّرْ: كَمَا أَنْذَرْتَ وَنَفَعْتَ، وَقَوْلُهُ: بِمَغْفِرَةٍ عَلَى التَّنْكِيرِ أَيْ بِمَغْفِرَةٍ وَاسِعَةٍ تَسْتُرُ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ حَتَّى لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ النَّفْسِ وَيَظْهَرُ عَلَيْهِ أَنْوَارُ الرُّوحِ الزَّكِيَّةِ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ أَيْ ذِي كَرَمٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِي الْكَرِيمِ فِي قَوْلِهِ: وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: ٤] وفي قوله:
رِزْقاً كَرِيماً [الأحزاب: ٣١] . ثم قال تعالى:
[[سورة يس (٣٦) : آية ١٢]]
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢)
فِي التَّرْتِيبِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الرِّسَالَةَ وَهُوَ أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي يَصِيرُ بِهَا الْمُكَلَّفُ مُؤْمِنًا مُسْلِمًا ذَكَرَ أَصْلًا آخَرَ وَهُوَ الْحَشْرُ وَثَانِيهَا: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْإِنْذَارَ وَالْبِشَارَةَ بِقَوْلِهِ:
فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ [يس: ١١] وَلَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ بِكَمَالِهِ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ: إِنْ لَمْ يُرَ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيَجْزِي الْمُنْذِرِينَ وَيَجْزِي الْمُبَشِّرِينَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ خَشْيَةَ الرَّحْمَنِ بِالْغَيْبِ ذَكَرَ مَا يُؤَكِّدُهُ وَهُوَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى وَفِي التَّفْسِيرِ مسائل:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute