للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ حُجَّتِهِمْ فِي التَّوْرَاةِ فَصَارُوا يَتَمَكَّنُونَ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى وَجْهِ الدِّيَانَةِ وَالنَّصِيحَةِ، لِأَنَّ مَنْ يَذْكُرُ الْحُجَّةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَدْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ قَدْ أَوْجَبْتُ عَلَيْكَ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقَمْتُ عَلَيْكَ الْحُجَّةَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَبِّي فَإِنْ قَبِلْتَ أَحْسَنْتَ إِلَى نَفْسِكَ وَإِنْ جَحَدْتَ كُنْتَ الْخَاسِرَ الْخَائِبَ. وَخَامِسُهَا: قَالَ الْقَفَّالُ: يُقَالُ: فُلَانٌ عِنْدِي عَالِمٌ أَيْ فِي اعْتِقَادِي وَحُكْمِي، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَلَالٌ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَرَامٌ، أَيْ فِي حُكْمِهِمَا وَقَوْلُهُ: لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَيْ لِتَصِيرُوا مَحْجُوجِينَ بِتِلْكَ الدَّلَائِلِ فِي حُكْمِ اللَّهِ. وَتَأَوَّلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ [النُّورِ: ١٣] أَيْ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ لِأَنَّ الْقَاذِفَ إِذَا لَمْ يَأْتِ بِالشُّهُودِ لَزِمَهُ حُكْمُ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ صَادِقًا.

أَمَّا قَوْلُهُ: أَفَلا تَعْقِلُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَفَلَا تَعْقِلُونَ لِمَا ذَكَرْتُهُ لَكُمْ مِنْ صِفَتِهِمْ أَنَّ الْأَمْرَ لَا مَطْمَعَ لَكُمْ فِي إِيمَانِهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ الحسن. وثانيها: أنه راجع إليهم فكأن عند ما خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ قَالُوا لَهُمْ أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا يَرْجِعُ وَبَالُهُ عَلَيْكُمْ وَتَصِيرُونَ مَحْجُوجِينَ بِهِ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْحِكَايَةِ عَنْهُمْ فَلَا وَجْهَ لِصَرْفِهِ عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ فَفِيهِ قَوْلَانِ، الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَيَعْرِفُونَ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ السِّرَّ وَالْعَلَانِيَةَ فَخَوَّفَهُمُ اللَّهُ بِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ مَا عَلِمُوا بِذَلِكَ فَرَغَّبَهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي أَنْ يَتَفَكَّرُوا فَيَعْرِفُوا أَنَّ لَهُمْ رَبًّا يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَعَلَانِيَتَهُمْ وَأَنَّهُمْ لَا يَأْمَنُونَ حُلُولَ الْعِقَابِ بِسَبَبِ نِفَاقِهِمْ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، فَهَذَا الْكَلَامُ زَجْرٌ/ لَهُمْ عَنِ النِّفَاقِ، وَعَنْ وَصِيَّةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِكِتْمَانِ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ. وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْيَهُودَ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ كَانُوا عَالِمِينَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُقَالُ عَلَى طَرِيقِ الزَّجْرِ: أَوَلَا يَعْلَمُ كَيْتَ وَكَيْتَ إِلَّا وَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ الشَّيْءِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ زَاجِرًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ كَيْفَ يَسْتَجِيزُونَ أَنْ يُسِرَّ إِلَى إِخْوَانِهِمُ النَّهْيَ عَنْ إِظْهَارِ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ لَيْسُوا كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ اللَّهَ وَلَا يَعْلَمُونَ كَوْنَهُ عَالِمًا بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، فَشَأْنُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَعْجَبُ.

قَالَ الْقَاضِي: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنْ كَانَ هُوَ الْخَالِقَ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَزْجُرَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْحِجَاجِ وَالنَّظَرِ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ طَرِيقَةَ الصَّحَابَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ ظَاهِرًا عِنْدَ الْيَهُودِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَا قَالُوهُ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُجَّةَ قَدْ تَكُونُ إِلْزَامِيَّةً لِأَنَّهُمْ لَمَّا اعْتَرَفُوا بِصِحَّةِ التَّوْرَاةِ وَبِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا جَرَمَ لَزِمَهُمُ الِاعْتِرَافُ بِالنُّبُوَّةِ وَلَوْ مَنَعُوا إِحْدَى تَيْنِكَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ لَمَا تَمَّتِ الدَّلَالَةُ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآتِيَ بِالْمَعْصِيَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا مَعْصِيَةً يَكُونُ أَعْظَمَ جُرْمًا وَوِزْرًا والله أعلم.

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٨ الى ٧٩]

وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩)

اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ الْيَهُودُ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَهُمْ بِالْعِنَادِ وَأَزَالَ الطَّمَعَ عَنْ إِيمَانِهِمْ بَيْنَ فِرَقِهِمْ، فَالْفِرْقَةُ الْأُولَى: هِيَ الْفِرْقَةُ الضَّالَّةُ الْمُضِلَّةُ، وَهُمُ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَالْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ: